حسين سليمان: تبدو مهنة الأدب للوهلة الأولى سهلة المنال، تتوقف على مستوى القراءة ومقدارها، وعلى الموهبة والمتابعة. فحين ينفق المرء جلى وقته في القراءة الأدبية والفكرية ستنمو في داخله عوالم تتداخل وتتشابك، تـُختصر في النهاية إلى منبع (أولي) ينهل المرء منه أفكاره وآراءه. ومن هذا المنطلق أشاع العرب القدماء الطريقة التي يصبح فيها المرء شاعرا، وهي أن يحفظ ألف بيت شعر ثم ينساها.
وهذه المقولة كما نرى تعول بشكل أساسي على الذاكرة، ركيزة النجاح في الحياة، فمن دونها يفقد المرء الفرص وتعوم أمامه الحقائق، فلابد من ذاكرة قوية للكاتب أو الفنان كي يبدأ الخطى الاولى في عملية الفن الصعب. والذاكرة وحدها كما تشير المقولة أعلاه لا تكفي، يجب أن يكون إلى جانبها النسيان، والنسيان هنا ليس ضعف الذاكرة بل هو عامل آخر شبيه بالذاكرة، ربما شقيقها، أو، بهذا المعنى هو الذاكرة التي تعدل وتنقي المعلومات إلى معلومات جديدة لها يقين آخر ومرتبة أخرى.
أرسلت الشمس أشعتها على الغابة تنير المعابر غير المرئية السفلى التي ما بين الأشجار وما بين الكثافة الهائلة للدغل المتكاثر، ثم جاء الليل وأطل القمر فبدت الغابة خرافة مليئة بالغرابة والوساوس والخوف، حيوانات الليل تخرج منها... بالقرب منها واد يسكنه كهنة شعورهم مسترسلة يتأملون السماء، وينظرون من آن إلى آخر الى المسرى المجانب للغابة الذي في مخيلتهم ليس سوى فعالية سحرية وطقس وهمي يبهجهم.
وكل ذلك، يجب أن يكون إلى جانب الموهبة والذاكرة والنسيان والألف بيتا من الشعر الحياة أو بالكلمة الأغريقية المتداولة quot;ربة الشعرquot;. فإلى جانب تلك العوامل يجب معها أن تكون ربة الشعر والفنون. هذا الحضور هو حضور مدني الصبغة يشي بطموح الروح أن تقدم صورة جديدة للعالم الذي تتأمله. من دون هذا الطموح لن يكون هناك أهمية بالغة للفنون والأدب.
وإن انتفت أهمية الأدب والفنون انتفت أهمية المدنية وعاش الناس في اختلاطات الزمن غير المحدد، المحبط، والانحطاط في كل ركن.
كانت تتأمل من النافذة الشارع غير المعبد، مرت سيارة تخفف من سرعتها، يضغط السائق على الفرامل، وينظر نحو النافذة، قميصها البيج يبعث انطباعا أنها لهفة، وتمسك بقضبان حديد النافذة وتلصق وجهها عليها، وآهات عذاب تخرج من بين الفتحات القليلة في روحها، بعد قليل سيتوقف ويلقي لها وردة- تحت النافذة، موسيقيون يعزفون الحب الذي رقرق قلب السائق.
على رصيف الشارع المقابل لنافذتها موقف باص النقل العمومي، يمر كل ساعة، وفي الليل كل ساعتين، يتوقف عند منتصف الليل وحينها يذهب الواقفون إلى بيوتهم ليوم تالٍ سوف يمر الباص وينقلهم الى مركز المدينة.
أحد الواقفين يدير رأسه نحوها. يقف هناك من أجل النافذة وليس من أجل مركز المدينة.
الحب من نافذتها ومن قميصها البيج، وشعرها تقعصات جمال ٍ، أسود بلون آهات الهجر والقلب المسجون، أين الحب الذي تنتظره؟
بهذا المعنى، سجينة، ولا صاحب السيارة ولا الواقف من أجل النافذة كي يمر الباص ولا يصعد، يحمل بيده كتابا يقرأه كلما تغيب، حين يلتفت نحوها يرى النافذة الوحيدة من دونها، مغلقة، كأنها مغلقة فنافذتها من دون وجهها وشعرها المقعص مغلقة. لا صاحب السيارة ولا الواقف استطاعا أن يجعلاها تنتبه. إذن إلى أين تنظرين أيتها الفتاة التي شغلتنا كل الوقت وكنا نظن أنها تنظر نحونا وأنها لنا؟
تعود السيارة خارجة من الشارع غير المعبد، ويصعد الذي بيده كتاب إلى الباص نحو مركز المدينة. تبقى هي، نراها في خيالنا واقفة عند النافذة ترنو، لعلها صورة من دون روح، حركة في سينما خيال الظل.
الحب ليس وهما- الإبداع ليس وهما، هو تصميم من أجل حياة ليست أفضل وليست أسوأ، بل من أجل عالم يتحرك نحو الكثافة والتعقيد، مستويات متعددة، والإنسان فيها يختبر قدرته شبه الكاملة، يمتلؤ بها.
إلى هذا العالم جاءت قصيدة النثر وجاءت الكتابة التي تقول ولا تقول، وليست كما عهدناها قديما، صورا مرتبة مسترسلة، وتفعيلة ومقامات العمود وأبحر...
يقول عبد الله البردوني - وهو، ربما، أجمل شاعر عمودي- في قصيدة أنسى أن أموت:quot;تمتصني أمواج هذا الليل في شره صموت \ وتعيد ما بدأت..وتنوي أن تفوت ولا تفوت \ فتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوت \ وتقول لي: مت أيها الذاوي.. فأنسى أن أموت.quot;
نرى القافية quot;صموت، تفوت، سكوت، أموتquot; كأنها جدران تحد الخيال، ترسم القصيدة ومساحتها قبل قول القصيدة. وبالنظر فيها نجد ان هناك قلقا في الفكرة: quot;تقول لي: مت أيها الذاويquot; وهي الأمواج ذات الشره الصموت؟! فكيف يكون ذلك، الكون الذي لا يقين فيه، لكن مع هذا فالفن في النهاية تناسبٌ. وقوله :quot;وتثير أوجاعي وترغمني على وجع السكوتquot;
كلمة السكوت في هذه الأبيات متطابقة مع القافية، فلو كانت القافية غير ذلك لاختلف المعنى. وكلمة quot;ترغمني على السكوتquot; حملت صورتها بعض التعسف أو الحضور الإرادي الذي لا يليق بفنية المعنى. ويبدو أن القافية لعبت لعبا إداريا موجها في القصيدة. ماذا لو كان المعنى لا يشير الى السكوت؟ ولاوجود لكلمة أخرى غير السكوت؟ ومن ناحية أخرى تقول له مت أيها الذاوي ثم ترغمه على وجع السكوت! هذا المتن غير المتجانس فنيا... فإن ارغمته على وجع السكوت فهذا يبعث الأمل أن تبقيه حيا، تسجنه مثلا. من يعرف أن نهايته الموت لا يسكت، ربما يرغم على السكوت لكن لا يسكت. القافية جاءت كي تقلص الخيال وتدخله ضمن حدودها.
الأدب القديم بحر ميت، مثلا، مازال بحرا لكنه لا يتحرك، ثقيلا، لا يُغرق، آمنا.
ثم دخلتُ البهو، قرعتُ الباب، رطوبة المدخل وعذوبة هواء مجهول المصدر كأنها رائحة جاءت من امرأة توها مرت في زماني الماضي- كلما أقف بباب امرأة جديدة أراها تمر واشم عبقها الذي لا يريد ان يخرج من أعماقي- وقفتُ ببابها، ملامس الجدران المطلية باللون الزيتي تعكس الحاجة الخفية لأن أبقى هناndash; ومثلما يحدث حين نلتقي مع من هو أعلى منا قيمة ومرتبة، يدخلنا سموه ورفعته فنحسب أننا في هذه الرفعة ndash; وهجمت أضواء الرغبة على وجنتي وسمت روحي إلى مرتبة عليا، وما الذي كنت أتوقعه حين تفتح لي الباب؟
تمر في خيالي أفكار وصور متغيرة تنتقل مثل المجنون من مكان إلى آخر، ولأن سكوني بهيج ثابت فسرعان ما تنطفئ وتتغير، وتنطفئ مرة أخرى، تريد أن تحملني من مكاني إلى مكانها، صور غارقة من زمان بعيد تعوم على السطح، جثث قديمة ظهرت منتصف النهار تحدق بي أنني من ملكها يوما ما، هكذا في أعماقنا كائنات منسية ndash; لحب قديم- نكاد لا نعرفها تقف معنا حين الإنتظار، عند الباب، كي تطل وتشهر رغبتها في المعارضة.
لحظة الزمن تلك وأنا واقف عند الباب، كانت أمواج الحياة تسلك طرقها في رأسي ndash; أمواج سبق لها أن أغرقتني وما كانت لتهب لإنقاذي، كنت أناديها وأشكو هزيمتي في زبدها المضطرب، مدي يدك أيتها المحبوبة، من خلف الحجب ومن أعماق التيه ويداي تتعلقان برباط واه من حقيقة مفترضة انها كانت تحبني.