نبيلة رزايق من الجزائر: يقال دوما أن الألوان والأذواق لا تناقش، فهل بإمكاننا وضع قرارات لجان تحكيم المهرجانات السينمائية ضمن هذا السياق،علما أنها في الأصل مستمدة من خلفيات ومدارس سينمائية مختلفة في الزمان والمكان، وهي في النهاية والبداية أمزجة ورؤى وأفكار ذاتية تتناقش لتلتقي أحيانا وتختلف أحيانا أخرى لتكون النتيجة في الأخير ما يعلن عنه بطريقة رسمية وأمام الملأ بحفل اختتام أي مهرجان سينمائي، وهي ذات النتائج التي قد تفرح البعض وتحزن البعض الآخر، الأكيد أن الموضوعية والذاتية وجهان لعملة واحدة هي النتيجة النهائية التي يعلن عنها عند نهاية أي مهرجان سينمائي.
استحضرتني هذه المقدمة وأنا استرجع بكثير من الحنين والتحليل نتائج الدورة الأخيرة لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط التي نظمت خلال الفترة الممتدة من 27 آذار/ مارس الى 3 نيسان/أفريل الجاري كانت موفقة في غالبية النتائج المعلنة خاصة ماتعلق بالأفلام القصيرة والوثائقية، إلا أن كثيرون عبروا عن أمنيتهم لو ذهبت الجائزة الكبرى للمهرجان إلى الفيلم التركيquot;من 10 الى 11 quot; لبلين أسمر الذي منح جائزة لجنة التحكيم الخاصة في حين ذهبت الجائزة الكبرى للفيلم الايطاليquot;ارفع راسكquot; لمخرجه أليساندرو إنجيلني والبالغة قيمتها 70 ألف درهم.
أجمع الكثير من نقاد وعشاق السينما أفضلية الفيلم التركي على الفيلم الايطالي من ناحية التقنية والفنية وحتى المعالجة السينمائية والإنسانية التي اعتمدت على حوار وحركة الصورة والكاميرا والتجوال بطريقة ذكية بين الأزمنة والأمكنة والمزج بين الروائي والوثائقي بطريقة ذاتية ذكية وكذا الانتقال والتغلغل بافكار وذكريات السيد quot;مدحتquot; وطموحات quot;عليquot; العادية جدا والباحث عن كرامة العيش له ولعائلته المتواجدة بالريف.
تروي بيلين أسمر، مخرجة العمل أن الفيلم بالأساس يسطر لقصة عمّها مدحت 83 سنة والذي جسد بنفسه دور البطولة، وكان يستحق أيضا جائزة أفضل ممثل علما أنه يقف أمام الكاميرا للمرة الأولى، فواقعيته وصدقه كانا طاغيان على كل أحداث الفيلم. ركزت المخرجة على هوايته في جمع ذكرياته المادية والمعنوية من مختلف تفاصيل حياته اليومية التي يختارها بطريقة عشوائية. غير أن مواصلة هذه الهواية يصبح أمراً أكثر صعوبة بالتدريج مع تدهور صحته، وخاصة بعد أن تعرضت مدينة اسطنبول لزلزال قوي أصبح يهدد البناية التي يسكن بها بالسقوط بسبب قدمها وعدم صيانتها من طرف صاحبها الذي إتفق مع غالبية سكان العمارة على الرحيل وتهديمها لإعادة بنائها بشكل حديث وعصري، وهو ما رفضه السيد العجوز مواصلا حياته وهوايته في جمع الأشياء على بساطتها من ملصق أوراق اليانصيب إلى بحثه المستميت و منذ سنوات عن الجزء الحادي عشر من موسوعة مدينة اسطنبول التي أفنى عمره في البحث عنه بعدما حافظ بشغف كبير على الأجزاء العشر التي كانت بحوزته، وهنا نجدنا في بيت قصيد وعنوان هذا العمل السينمائي الذي هوquot; 10 الى 11 quot; أي أن مجمل الأحداث التي تقاطعت خلال خط سير العجوز quot;مدحتquot; بالشابquot; عليquot; خلال البحث عن الجزء الاخير للموسوعة والذي تمكن quot;عليquot; بالصدفة والحيلة من إيجاده لكن من بعد ان ضيع الأجزاء العشر التي كانت لدى السيدquot;مدحتquot; من سنين عندما ائتمنه عليها طالبا منه الحفاظ على أرشيفه وموسوعته. حدث ذلك أمام ضغط السلطات المحلية التي كانت تطالب العجوز quot;مدحتquot; بإخلاء شقته من الأشياء التي يجمعها من بعد شكوى حررت ضده من طرف سكان البناية ليضطر بأن يعهد بهوايته المتمثلة في البحث واقتناء الأشياء القديمة إلى quot;عليquot;، البوّاب الذي يعمل بالعمارة ولا يعرف من مدينة اسطنبول إلا القبو الذي يسكنه وسكان البناية التي يعمل بها، فيحدد له الشيخ العجوز مسار يومه والاماكن التي كان يرتادها لاقتناء ما يبحث عنه لكنه يتبع منهجًا مختلفا عن الذي كان يتبعه الرجل العجوز الذي يقطن بالشقة المزدحمة بالذكريات والبواب الذي يسكن قبو العمارة الخالي من الذكريات لكن الأمر المشترك بينهما هو الوحدة.
تمكنت المخرجة وبطريقة سينمائية جد ذكية من أن يتعرف quot;علىquot; على عالم الشيخ العجوزquot;مدحتquot; والعكس. كما حاولت المخرجة من خلال حركة الكاميرا البطيئة والحوار المتثاقل لبطليها عبر أحداث هذا الفيلم ان تكاشف المشاهد بعوالم quot;عليquot; الشاب والشيخ العجوز وشقته المحشوة بأشيائه وخصوصياته التي دائب على جمعها من أربعينيات القرن الماضي الى الوقت الحالي وكيف فضل التخلي على زوجته على أن يتخلي على أرشيفه بعدما طلبت منه أن يختار بينها وبين ما يجمع من أشياء منذ سنوات يكدسها ببيتها ففضل التاريخ على حاضره وزوجته.
وحتى من خلال تجوال الكاميرا رفقة البطلين العجوز والشاب اليافع القادم من الريف إلى مدينة اسطنبول اكتشفنا مناظر وأماكن غير تلك التي اعتدنا علي مشاهدتها بالمسلسلات التركية، اقتربنا أكثر من يوميات وواقع الأتراك وابتعدنا طوال مدة الفيلم عن الصورة الكاريكاتورية التي كرست لها الدراما التركية في الفترة الأخيرة. كما سعت المخرجة بلين اسمر طوال أحداث فيلمها على إبراز المجتمع والفرد التركي وتمزقه بين الأصالة والمعاصرة، بالرغم من أن هناك من الأتراك من يرمي بمثل هذه الأفكار إلى ما وراء الشمس ويرون أن محليتهم وانقسامهم بين الشرق والغرب وتجاذبهم بين الاصالة والمعاصرة لا يعكر صفو المجتمع التركي بقدر ما يزيد من مميزات هذا المجتمع وتفوقه الذي اكتسح خلال السنوات الأخيرة كل مجالات الحياة: الاجتماعية السياسية الرياضية الاقتصادية الثقافية وحتى السينمائية وما فيلم بيلين اسمر إلا خير دليل على هذا التميز والمزاوجة بطريقة فنية سينمائية راقية وعالية بين الروائي والوثائقي.
تركيزquot;بيلين أسمرquot; على إصرار بطلها العجوز على استكمال موسوعته الخاصة بمدينة اسطنبول دليل على هذا الطرح فبينما العجوز أفني عمره في جمع الموسوعة وحصوله على عشر أجزاء نجد الشاب التركيquot;عليquot; يقوم ببيع ما جمعه العجوز، حتى يحسن من معيشته ووضعه لكنه بالمقابل يهديه في نهاية الفيلم الجزء الحادي عشرمنها وهو الجزء الذي لطالما كان يبحث عنه طوال عمره بعد أن عثر عليه صدفة تاركا إياه وحيدا بالعمارة المهددة بالسقوط رفقة الجزء الـ 11 من الموسوعة.
فيلم quot;10 الى 11quot; للمخرجة بيلين أسمر هو أول أعمالها الروائية الطويلة والثالث في تسلسل أفلامها بعد quot;الجابيquot; وفيلم quot;المسرحيةquot;وهو من انتاج 2009 و مدته 110 دقائق، بطولة: نجاة أشلر، مدحت أسمر، تايانج آيايدن، لاجين جيلان، سفاز آكوفا وسنان دوغمجي.
درست بلين علم الاجتماع في استانبول بدأت بالكتابة السينمائية والانتاج واخراج الأفلام الوثائقية عام 2002 حصلت بفضل هذا الفيلم على جائزة التحكيم الخاصة بمهرجان اسطنبول السينمائي وأفضل فيلم بمهرجان أضنة بتركيا. أما خارج بلدها فقد تحصلت على جائزة أفضل إخراج لفيلم شرق أوسطي بالدورة الأخيرة لمهرجان أبو ظبي، وآخرا ليس بآخرا تحصلت على جائزة لجنة تحكيم الدورة الـ 16 لمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط علما انها كانت تستحق بصدق الجائزة الكبرى.