quot;ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي، من منظور العلوم الاجتماعية للأديانquot; لعبد اللطيف الهرماسي

محسن المزليني من تونس: صدر في بيروت منذ أيام كتاب جديد للباحث التونسي الدكتور عبد اللطيف الهرماسي تحت عنوان quot;ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلاميquot;. ويعتبر الهرماسي، رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة quot;9 أفريلquot; التونسيّة، وهو أحد أهم المختصين في علم اجتماع الأديان وسبق له نشر عديد البحوث والكتابات حول التيارات الإسلامية بتونس والحركة الإصلاحية بالمغرب العربي. ويبقى كتابه quot;الحركة الإسلامية بتونسquot; الصادر أواسط الثمانينات أحد المراجع المهمة التي لا غنى عنها لمن أراد الإطلاع على جذور النشأة وتحولات الظاهرة الدينية بالبلاد التونسية.
ويعتبر الكتاب الجديد الذي صدر مؤخرا عن quot;مركز دراسات الجزيرةquot; و quot;الدار العربية للعلوم ناشرونquot;، ضمن سلسلة quot;أوراق الجزيرةquot; إضافة أخرى مهمة للدراسات الاجتماعية بتونس و بالوطن العربي نظرا لحساسية الموضوع ودقّة التناول. فرغم ان عدد صفحات الكتاب لم تتجاوز 76 صفحة من الحجم المتوسط، إلا أنها جاءت مكثفة في إشاراتها، دقيقة في تناولها لظاهرة باتت تشغل أهل العلم ورجال السياسة والمواطنين البسطاء نظرا لانتشارها في المجتمعات العربية انتشار النار في الهشيم، ألا وهي ظاهرة التكفير الديني.
وبعيدا عن التفسيرات السطحيّة التي تهدف إلى اختزال هذه الظاهرة في جملة من القوالب الإيديولوجية خدمة لمصلحة المتكلم، استطاع الأستاذ عبد اللطيف الهرماسي أن يسبر أغوار هذه الظاهرة من خلال الحفر في الإيديولوجيا التكفيرية كاشفا عن جذورها العقائدية والاجتماعية، سلاحه في ذلك آخر ما استجدّ في العلوم الإنسانية من مناهج ومفاهيم وبراديغمات، إضافة إلى خبرة طويلة في التعامل مع هذه الظواهر المستعصية على البحث.
تناول الهرماسي ظاهرة التكفير باعتبارها ممارسة وإيديولوجيا في الإطار الإسلامي وأيضا بوصفها ظاهرة تاريخيّة، مستندا إلى مقاربات علم اجتماع الأديان. ولأنّ quot;التكفيرquot; ليس نبتا خاصا بـquot;دار الإسلامquot;، انطلق الباحث بوضع الظاهرة في سياقها الإنساني العام ثمّ ركّز البحث على تجلياتها وآثارها في الدائرة الإسلامية متتبعا المسارات والتحولات التي خضعت لها.
ولتشخيص الظاهرة استهل البحث بجملة من المقدمات أهمها ما عدّه نزوع للإنسان إلى إضفاء المعنى على العالم الذي يعيش فيه باعتبار ذلك أحد شروط تكوّن المجتمعات البشرية، فمن ماكس فيبر إلى كوسترياديس حاول علم الاجتماع التأكيد على أنّ الإنسان وهو يبني ذاته ككائن اجتماعي مضطرّ إلى إنتاج شبكة من الدلالات تحدّد معالم التوجّه وتنظم الكون. وليس البديل عن ذلك إلا السقوط فيما سمّاه الهرماسي اللامعنى أو العمى.
كما أنّ إنتاج المقدّس يُعتبر الصيغة الأمثل لوضع حياة البشر في نظام الكون. فلا يمكن أن يولد عالم في quot;عماءquot; التجانس، وبالتالي فإنّ ظهور quot;الإلهيquot; هو الكفيل بولادة نظام الكون نظرا لما يحدثه من انقطاع بين ما هو قداسي وما هو ليس كذلك. واعتمادا على المقدّس وبظهوره أمكن للإنسان أن يؤسّس العالم ويسكنه. وفي هذا الإطار صار للشأن الديني أثرين متناقضين إذ بقدر ما يستطيع تخفيف العنف من خلال السيطرة عليه وتنظيم تصريفه، بقدر ما بإمكانه إشعال الحروب والعنف المنفلت من أي عقال في لحظات أخرى.
أمّا ثالث هذه المقدمات فتتعلق بالثورة التي أحدثتها الديانات التوحيديّة بتنزيهها المطلق للإله المفارق. وقد ساهم كلّ ذلك في إمكان عقلنة ولو نسبية للأخلاق، كما أنّ التعالي الجذري لديانات الوحي قدّم حلاّ حاسما هو الخضوع إلى من لا يُسأل أو يُجرّم. اعتمد الباحث في مغامرته البحثية على مفهوم الهيمنة وعلاقته ببنى المصداقيّة، والذي مؤدّاه أنّ النّظام الاجتماعي لابدّ أن يشكّل بنية لمصداقيّة العالم الديني وأنّ ذلك يبقى ضرورة لبقاء النسق الديني فاعلا كما يعطي فرصة إلى الجماعة، أي جماعة، كي تهيمن على فضائها الجغرافي والإجتماعي أيضا انطلاقا من هذه المطابقة بين النّسقين، وكلّ ارتباك في هذه العلاقة لابدّ أن يؤثّر على نمط الشخصية وبالتالي على ردود فعلها. و خلافا للديانات الطقوسية (كالوثنية مثلا)، اعتبر الباحث، أنّ الديانات التوحيدية الموجّهة نحو الخلاص هي التي أعطت قيمة كبرى للمصائر النّهائيّة. وquot;لكن داخل هذه الدائرة ذاتها، فإنّ الصّراع بشأن الحقيقة المطلقة يبلغ أشدّه بين ديانات الوحي وداخل كلّ واحدة منها، ويتعلّق الأمر خاصّة بالديانتين الحاملتين لنزوع كوني توسعي: أي المسيحية والإسلامquot; (ص6/7).

التكفير في الموروث الإسلامي
كشف الهرماسي انطلاقا من هذه المقدّمات عن الدلالات واستراتيجيات التكفير في الحالة الإسلاميّة مع التنبيه على أنّ الإسلام الذي يقصده هو الإسلام التاريخي ولا يحيل إلى أي تصوّر جوهري أو معياري. وأكّد أنّ هذه القضيّة شهدت تحوّلات بتغيّر وضع المجتمع الإسلامي من المدافعة وإثبات الوجود إلى المواجهة وفعل التوسّع، ملاحظا أنّ القرآن الكريم قدّم نفسه باعتباره القول الفصل في تحديد علاقة الله بالكون وبالإنسان، و باعتباره أيضا خاتم القول والمصحّح لما سبقه، ومن هنا شكّل الإسلام نقطة تباين ومكوّنا أساسيا من مقوّمات الاستبعاد بين الديانات، مثلما يشير إلى ذلك محمد أركون. وعرض الباحث إلى الاستعمالات القرآنية للجذر quot;كـ فـ رquot; مبيّنا كيف تطوّرت دلالته من فعل الحجب والتغطية إلى نعت للوثنيين قبل إطلاقها على من رفض التصديق بالرسالة المحمدية من أهل الكتاب، ثم ليُصبح في النهاية دالا على نقيض الإيمان.
أمّا على مستوى حالة الجماعة المسلمة فأشار الباحث إلى التأكيد القرآني على الصّبر على الحقيقة في صدر الإسلام ثمّ على تأسيس سلطتها والقتال من أجلها، قبل أن تتحوّل مع الخلفاء الراشدين إلى حالة تداخلت فيها هيمنة الديانة بالإستراتيجيات والمغانم الاقتصادية. وبناء على ذلك تعدّدت وظائف التكفير وغاياته بحسب حال المجتمع الإسلامي، من الدفاع عن هويّة عبر رسم التمايز عن مثيلاتها إلى النزعة إلى الهيمنة مثلما وقع في حروب الردّة.. يمكن القول إذن، حسب الهرماسي، أنّ رهانات التكفير في الإسلام الأوّل لم تخرج عن دائرة التأسيس لفكرة تفوّق الرّسالة، بينما فتحت حادثة الردّة أفقا آخر فتحوّل المفهوم من وسيلة للتمييز بين الديانات إلى التقييم داخل الجماعة ذاتها، ليلتبس منذ ذلك الوقت الصّراع على الحقيقة بالصّراع على السّلطة، خاصّة بعد أن سيطر الإسلام بشكل كامل وفي وقت قصير على فضاء واسع وأرسى نظاما متكاملا أطّر كلّ العلاقات وفرض على الثقافات القديمة أن تتكيّف مع حقيقته. وبذلك بلغ المقدّس الديني غاية توسّعه مبتلعا كلّ مجالات الدّنيا.

لحظة الارتباك
وتساءل الباحث إن كان لظاهرة الحداثة أثر على نسق المصداقية في المنظومة الدينية وهل يمكن بالتالي رسم علاقة بينها وبين تفاقم ظاهرة التكفير؟
إجابة عن ذلك، اعتبر أنّ الحداثة ظاهرة صادمة ومفكّكة لكلّ الثقافات التي لم تشارك في صنعها. لقد وُلدت الظاهرة في الغرب المسيحي ودخلت إلى ديار الإسلام من خلال الحركة الاستعمارية لتُدشّن بذلك لحظة صراع ستتفاقم مع تسارع تفكيك البنى القديمة سواء كانت مؤسسات أو أفكار. لقد اخترقت القيم الحديثة كلّ فضاءات العالم الديني بشكل أرسى نوعا من الشكّ المقلق في مصداقيّة هذه المنظومة، وهو الشكّ الذي سيكون مثيرا لمزيد من التوترات خلقت بؤرا للسلوك التكفيري، زادت المؤسسات الفقهيّة التقليديّة في تأجيجه بعد أن عجزت عن الخروج من هذه الحلقة القاتلة بإبداع ذاتي يوائم بين القيم الحديثة ذات البعد العالمي والرأسمال الرمزي المتجذّر في الذّاكرة الجماعيّة.
وبعد رحلة مضنية في دروب الفكر الإسلامي ومنعرجاته أكّد الباحث أن quot;الايديولوجية التكفيرية التي بدأ بصياغتها أبو الأعلى المودودي و برزت لاحقا مع التيار القطبي وتيار السلفية الجهادية، تمثل في المقام الأول ردّة فعل على تصدّع الأطر الرمزية و الاجتماعية الموروثة تحت ضغط الحداثة ونتيجة لاستنبات أطرها ومؤسساتها وفكرهاquot;. كما انّ quot;خيباتquot; الدول القطرية وعجزها عن تحقيق أي من الطموحات التي بشّرت بها يمكن النظر إليها أيضا باعتبارها أحد الروافد التي تغذي الإيديولوجية التكفيرية، إضافة إلى رافد المخيال الديني والنصوص الفقهية والاجتهادية التي كثيرا ما يُنظر إليها خارج سياقاتها التاريخية والاجتماعية.
لكن هذا التوصيف القاسي للواقع ليس مدعاة للتشاؤم، حسب الباحث، فهو يعتقد أن الرؤية الشاملة والمعمقة quot;تجعلنا نأمل في أن يفضي تراكم التجارب ودروس التاريخ إلى تنامي وترسّخ الوعي بضرورة الانتقال من مرحلة الانفعال إلى مرحلة الفعل والبناء الهادئ، وإلى اجتراح طريق أو طرق إسلامية خصوصية في استيعاب منظومة الحداثة وتبيئتها. فإذا كان صحيحا أنّ الحداثة حداثات فيما يتعلّق بالغرب فلماذا لا يكون للمجتمعات الإسلامية سبلها الخاصّة إليها؟ ورغم العقبات العديدة، فإن ثمّة حاجة ملحّة للمضي قدما في إصلاح التفكير الديني وربطه بالإصلاحات التربوية والاجتماعية والسياسية المطلوبةquot;.