علي النجار: لميعد للنحت مجدا كما كانه في السابق. ومجده الحالي يكمن في غنى وتنوع مواده التنفيذية وانزياحاتها لمناطق تشكيلية أخرى. فالنحت إن كان أنصابا تحول ألان إلى مشهدا. وما بين النصبية والمشهدية فوارق جمة. لقد تقاسمت الفعل النحتي المعاصر كما عموم التشكيل ثورتين تشكيليتين معروفتين هما حركة الهابنز (الفعل أو الحدث) والفن ألمفاهيمي ومنه البيئة في الستينات، وهما من ضمن أفعال الأدائية الجديدة. بعد أن تحررت على يدي كل من بيكاسو ومارسيل دوشامب ومجايليهم بدايات القرن الماضي. وبناء على هذا الحراك التنفيذي والمفاهيمي وبتوسع وسائله ووسائطه لم يعد النحت يحتكم إلى مفردته الموروثة عملا تشخيصيا موصولا بكتلته.

ما نلاحظه في هذا العرض يؤكد أيضا تشتت الفعل النحتي وتشضيه عبر أعمال تجميعية وإنشائية مختلطة الوسائل والوسائط. وان كانت من بقايا لأرث فنانين بحجم (جوزيف بويز) آو (تابييه) أو (جود) أو (جيم دين) ومعاصريهم تجوب وتجول في هكذا معارض، فاني اعتقد أن حضورها ضمن هذا العرض وغيره من العروض الجديدة لا يتعدى كونه فعل مضاربة اظمارا لأهمية حراك مبدعيها مؤسسي معاصرتنا. ومع كل ما نراه من حراك العصر وانزياحاته المعرفية والتشكيلية. فان أعمالهم لا تزال فاعلة وكأنها بنت يومنا. وليس في الأمر من غرابة وفن اليوم يستوعب كل خطوط الحراك التشكيلي الذي أسسه هؤلاء الرواد وغيرهم ضمن مساحته الأدائية الشاسعة.

اخترق الحس المفاهيمي صلابة المادة وسيولتها وحولها إلى أعمال جادة وساخرة، سياسية واجتماعية وفنتازية. ولم يقف تنوع المادة عائقا أمام مشهديتها. بل أصبح من أسس إدهاشها. مشروع عرض (تين هاف) قدم عمل الفنان (اندرو جلبرت) والمعنون (تكنيك مختلط) الذي احتل وسط حيزه أربعة مقاتلون يحيطون بمنضدة يرتفع فوقها تكوين مشهدي لمقاتل وكرسي وهيئة صخرة تتشكل فوقه وتشكل تكوين مشهدي اقرب إلى شكل حيوان خرافي. كل أجزاء هذا العمل مصنوعة بغرابة موادها من الأردية العسكرية البسيطة إلى السراويل وقطع الأرض المعشوشبة المقتطعة التي يقفون عليها والأواني البلاستيكية أو الخزفية التي تحتل موقع رؤوسهم (رؤوس اغترابية فنتازية). العمل رغم مظهره النحتي، لكنه لا ينتسب للنحت إلا بمشهديته المتعددة الوسائط وغرابة تجميعها ورغم ما يبدو عليه من صلابة مظهرية، إلا أنها محكومة بهشاشة هذه مواد هذه الوسائط.

من السويد يصنع الفنان (ميخائيل جونسون) زورقا من المعدن وحسب تصوره، لكنه مجرد زورق رغم بعض التفاصيل المضافة (لم يعرض هذا العمل، لكن صورته مثبتة في الكتلوك فقط). الفنان الألماني (ستيفان بتريكا) يعرض مجموعة كلاب حمراء من الحجر الجيري بحركة محورية. الفنان (بيتر جيريدس) صنع منحوتات من مزيج الورق والطين كأنها فضلات الحيوانات بعد تصنيعها بدائيا وبملمس مشهديه عضوية مسطحة غرائبية،. (اولوف مويج) صنع الهياكل الرئيسية للسيارات (رليف بارز) من مواد مختلطة بملمس خشن.

الفنانة (مادلينا بيرخمر) صنعت من اللدائن والنحاس دوامة من الأحذية الطويلة (بوت)، أما ( توم كلاسن) فقد صنع من أصماغ الأشجار والمطاط والبولستر حيواناته وزواحفه اللينة، السويسرية ( ريكولا ماريا مولر) صنعت من مسابح اللؤلؤ والزجاج والنحاس والقطن والألوان فاكهتها المفضلة، فنانون آخرون اشتغلوا على مخلفات المعادن وشظاياها مثلما اشتغلوا على مجسمات وهياكل خشبية وكارتونية وبلاستيكية وتداخلت جزئياتها المنحوتة وشرائح السلايد والصورة الفوتوغرافية واختلط السيراميك بالزجاج بالجلود بالخشب بالبلاستك بالنحاس بالبرونز بالخيوط بالمطاط بالكارتون والورق والقماش ولينتج مألوفية مغتربة وغرائبية مشهديه هي بعض من سحر النحت المعاصر.

للأعمال التجميعية حصة أخرى في هذا العرض:

مشروع عرض الفنان البلجيكي (كون فانماخلين) ـ المشروع الفينيسي ـ امتاز بحضور طاغ لغرابة تفاصيله وتنوعها. لقد جمع هذا الفنان ادائين في عرضه، التجميع والأداء الجسدي. انشأ قفصا خشبيا كبيرا ووضع فيه ديك حي ومستلزماته مع رسوم وصور لديوك أخرى وبتقنيات مختلفة. وفي زاوية قريبة وضع قفصا معدنيا مفتوحا اصغر من الأول يحتوي ديكا تجميعيا برأس وسيقان زجاجية وجسد من ريش. مع عمل فيديو ورسوما كرافيكية وصور فوتوغرافية أخرى مدبلجة للديك أيضا ورأسه وزعها على جدران العرض. الغريب في الأمر ان الديك الحقيقي فقد شعوره الزمني (اعتقد بسبب من إنارة العرض وفضاءات العروض الأخرى) فكان يصيح بين فترة وجيزة وأخرى لينتشر صوته في مساحة العرض وأدى دوره الأدائي بجدارة وكان من مفاجآت العرض. هل وضعنا الفنان ضمن إطار مفهومه لدجنة الحيوان، وهل نحن ذكورا ديوكا كما يودنا في معظم أعماله التي اطلعت على صورها رسوما ومنحوتات واداءات غير تقليدية.

الفنان (بيتر زوان) صنع حيوانه الزاحف نصفه من لدائن تشبه الجلد البشري بزعنفة، والنصف الآخر الذي يمثل الرأس من منشار قطع الغابات الأوتوماتيكي. أما الفنان الإسرائيلي (ألون ليفن) فقد صنع منشأة تجميعية من هياكل خشبية مستقلة ومتداخلة ومتقابلة مع سقف مثلث بانحدارات زواياه وهياكل أخرى معلقة على الجدار تشبه الصحون اللاقطة. وأطلق على عمله او عمارته (تحت السيطرة) ولا ادري لم تعلق الفنانين الإسرائيليين بالمنشأة المعمارية المتفككة والمألوفة وهل يحمل ذلك مضامين دفينة!.

فقد شاهدت منشأة غريبة لفنانة اسرائيلة في عرض العام الماضي احتوت على كل أحلامهما المنزلية واباحاتها. أما عرض الفنان (اريك لاي) هو الآخر الإسرائيلي الثاني الذي سجل حضورا باستفزازه لفضاء العرض بفؤوسه التي غرزها على جدران وسقفية وأرضية العرض البيضاء، فهل أراد افتضاض المحيط الأبيض بفعله الاقتحامي.

اعتقد بان هذا العمل يتجاوب بغرابة مع رسوم (جيم دين) الكرافيكية الثلاث والمعروضة في إحدى قاعات العرض والتي يمثل كل منها عضوا ذكريا في حالة انتصاب مدون أسفله (كنساس ستي انا كنت هناك) لقد تحول الفنان في هذا الرسم ألمفاهيمي من تشخيص القلوب رسما ونحتا إلى الجنس المذكر وليحول العاطفة بكل أبعاد إشعاعاتها إلى الجنس إثباتا لوجوده. الفنان (جابريال ليستر) عرض منشأة على شكل غرفة نوم مكعبة استبدل جدرانها بمساطر خشبية متباعدة قليلا ومطلية باللون الأسود مثبتة على المستوى السطحي بشكل مائل متكرر بحيث تسمح للنظر بالتلصص من خلال التحرك بحدود فرجة زواياها لتنكشف بالتقسيط تفاصيل محتوياتها.

لقد حضر المعمار أيضا في هذه العروض في العديد من الأعمال، لا كمجسمات قابلة للسكن، بل بما يستطيعه الفنان من اللعب على غرابة فضاءاته المعمارية، أو بما يجعلها تبادل مواقعها المألوفة وشطحات الفكر مفاهيميا لا ماديا براكماتيا. وليس غريبا أن يكون المعمار حاضرا ودرس الباوهاوس لا يزال فاعلا. وما شاهدته في هذا العرض وغيره من نماذج لخرائط ومجسمات غرائبية منفذة بتقنيات عالية شارك فيها التشكيلي والمعماري والكرافيكي وأدخلتنا في احيازها مشاركين ومشاكسين في آن واحد..
مشروع الكرافيك والتصميم التركي (اكستراستروكل (4)حاضر في عمله (ارفع يديك) وهو هنا حاله حال العديد من مشاريع الفنانين العرب الأوسطيين الذين وجدوا طريقهم في هذه العروض ضمن خطاب الآخر المؤدلج بمواضيع إشكالية الحجاب والإرهاب و الدين والدنيا في الخطاب الإسلامي.

وكما في أعمال الفنان ذي الأصل المغربي منير الفاطمي الذي ساهم في العرض العام الماضي. أو في العديد من الأعمال التشكيلية الإيرانية المغتربة. والقائمة تطول. ومناسبات العروض الغرب أميركية هي المكان المناسب لكشف حساب الذات الملتبسة باشكالياتها الاثنية. ارفع يديك نفته الفنانة (الر يوكوري) كعمل صوري يتركب من مفصلين ثقافيين متصادمين. الجامع مشرع مناراته في وسط الصورة (مونتاج طباعي فوتوغرافي)، وعلى الجانبين نساء بلباس البحر شارعات أذرعهم بموازاة مسار المنائر الصاعدة.واعتقد أن المعنى أو الرسالة التي يود بثها هذا العمل واضحة وبدون لبس. وما تبحث عنه الفنانة هو ابعد من ذلك!.

لم تحضر أعمال الفيديو ارت بقوة هنا كما في مشاريع عرض المتاحف المعاصرة أو المهرجانات التشكيلية الموسمية كمعرض الربيع الدانمركي مثلا. رغم اختلاف الأداء التشكيلي الشمالي الاسكندينافي عموما والذي ينحى إلى التأثر بآخر الصرعات التشكيلية المعاصرة وغالبيتها مفاهيمية، لكون العرض ذو طابع تسويقي بمعظمه. لكن عمل الفنان السويسري (مارك) المعنون (الحمام التركي) كان ملفتا للنظر. يتكون هذا العمل من ثلاثة عروض شاشات متسلسلة تمثل فتاة تستحم بحيز مائي مؤطر وضيق مقتطع من مساحة الحوض الأوسع بأطر معدنية مع قضبان كحواجز بمستوى ارتفاع الأطر وما تؤديه السابحة هو فقط المرور من بين تعرجاتها صعودا ونزولا. العمل بمجمله يؤكد على تجاوز فعل السباحة إلى الرقص الإيقاعي المشتبك ومساراته المحددة مسبقا ولا يتعدى غرابة فكرته ومهارة تقنيته واعتقده يتماشى وسياسة العرض التسويقية.

أخيرا أن كان لي ن اثبت بعض الملاحظات على عروض هذا المهرجان التشكيلي السنوي. فاني اخترت بعض من تنوعاتها من اجل ذلك، هذا لا يعني إغفال الكثير من العروض التي ترتقي بمستواها. لكن يبقى المهم في هذا العرض توفيره لمساحة أوسع للأعمال الإنشائية والتركيبية وإنتاج المواد المختلطة بمألوفية بعضها وغرابته وإشراك المتلقي كشريك فاعل في العمل مع المحافضة على توازنات نوايا إداري العرض والقاعات المشاركة ومنافساتهم التسويقية جنبا إلى جنب العروض التي لم تتجاوز تقليديتها ولا تقاليدها.

بالتأكيد عرض كهذا يسجل اختلافاته وعروض أو مهرجانات تشكيلية تشتغل على الفعل الفني ومستجدياته ونواياه الثقافية أو الثقافية السياسية أو البيئية وتحت عناوين أو ثيمات أو اطروحات معينة، أو مع معارض تشكيلية نوعية كالبينالات أو الترينالات وخاصة المعروفة أو المشهورة عالميا. ومع ذلك فان هذا العرض لا يخلو من ملامح أو اشارت لحراك تشكيلي مستقبلي رغم طابعه التسويقي مثلما يبصرنا بخبايا عروض القاعات الخاصة وحراكها الزمني ومستويات التشكيليين المتعاطين والمتعاقدين والمعتمدين من قبلها. ومع ذلك فان عروضه بما تحتويه من مناطق تشكيلية مختلفة فإنها وبمواصفاتها هذه لا بد أن تشكل باناروما تشكيلية مهما تكن سعتها فبالتأكيد هي منذورة لزمننا الحالي وعلينا أن ننظر لها كعالم صوري تشكل ضمن صور عالمنا المتعددة.

هوامش:

(1) ـ لقد سبق وان قدم مدير وثلاثة من محرري دورية (الأيونان) شبكة الفنانين المهاجرين في اوربا (يساهم في نشاطاتها التشكيلية فنانون عراقيون وعرب) أمسية في هذه القاعة في شهر شباط الماضي تحدثوا فيها عن مشروع هذه الشبكة واعتماد إصدار دورتهم الفنية من لندن مع عرض (المجلة التشكيلية الدورية في عددها الجديد).
( 2X2 Proje t (2) ـ
(W 1369) (3 ) ـ
Eller Yukarı، Extrastruggle (4) ـ