بحيرة ليمان تمتد مثل لسان ثعبان وسط جنيف. تقف في نقطة التقائها بنهر الراين. تظهر تلال جورا على امتداد ساحل البحيرة. القمم مكللة بالثلوج.جبال الألب المدفونة في كتل السحاب، تبدو وكأنها حارسة لأسرار غامضة، عصية على الفهم..تغطي الثلوج قمم الجبال فيها مع بدء شهر أيلول، ومع هبوطها إلى الأسفل بالتدريج تغير الغابات ألوانها، حيث تتلون بألوان البني المتعددة ثم ماتلبث بعد تساقط أوراق الأشجار أن تتحول إلى لون بنفسجي حزين. أما السحب التي تتشبث بالقمم الجبلية فتأخذ أشكالا متعددة حيث تبدو وكأنها محصورة بين جبلين.
أما الضباب فيبدأ عادة في شهر تشرين الثاني، ولايرغب بالرحيل حتى شهر شباط. ومثل إمرأةٍ لم تشبع من الحب، يحتضن كل يوم قمم الجبال بشكل جارف، تأخذها بين ذراعيه، وينهال عليها بقبلات ندية.
مع ظهور الشمس بمعجزة تبدأ ريح قوية بتفريق السحب، حيث تظهر شوارع جنيف براقة جميلة. في الأعياد تزين الأشجار والشوارع بأضوية ملونة، وتقدم عروض للدمى ويرقص الراقصون والمهرجون في الشوارع. المحلات تزدحم بالمتسوقين، تختلط الموسيقى برائحة الخمر والمال، وأصوات الشحاذين. في هذه المدينة التي تفور بالرخاء والثراء، توحي وبطريقة بالغة الذكاء بأن لا مكان للجريمة والفقر فيها.

* * * *

قطعا لم تكن تعرف كل ما مر ذكره عن مدينة جنيف. كانت المدينة بالنسبة لها منظر خلاب، ساحر كصور المناظر الطبيعية التي كانت تباع في بلدها لتبادل التهنئة بمناسبة الأعياد. لدى وصولها إلى جنيف، أحست في البدء أن كل شيء يراها و يتابعها.الشوارع النظيفة، وعربات الترام التي تقطع نفس المسافة عشرات المرات في اليوم من الصباح الباكر وحتى منتصف الليل، والعمارات التي تطفيء أنوارها وتنام مبكرة استعدادا لصباح جديد. كل شيء يتابعها خطوة وخطوة بعيون لا ترمشان. كانت تعتقد أن الشرطة الذين يظهرون نادرا في الشوارع، ويبدون غير مبالين إنما يعرفون أبجدية أحزانها، وأصداء كآبتها المعشعشة في الأعماق.
مع الزمن علمت أن الشوارع والبيوت هنا لاتعتاش على القيل والقال كقريتها الغارقة داخل شرنقة من الطقوس المنسيّة في ليل الخرافات والمعجزات والحلال والحرام، وأحاديث يرويها دعاة، ونصائح لعجائز دبت الشيخوخة في كل ذرة من أجسادهم.لكنهم مع ذلك لايتوانون في أن يضعوا أحلام الجميع في أسار وقيود وأقفاص من الخرافات والحكايات.الشفاه هنا لاتبقى ظامئة إلى لذة التقبيل، والأجساد لا تعيش بعيدة عن لذة العناق.

بدأ كل شيء يوم ما اكتشفت نظرات أمها إلى جسدها الغض البريء. تبعها لأيام، حديث سري بدأ أولا مع أبيها ثم مع نساء الجيران اللاتي كن يرمقنها وكأنهن ينظرن إلى خطيئة مجسدة في جسدها الذي كان يعيش طفولته، غير عالم بالمؤامرة التي يعد لها في الخفاء.
وفي صباح ماتت فيه الشمس، بدا كل شيء في حياتها معتما. عاشت تفاصيل التآمر على جسدها الغض وعضوها الذي كان لا يزال كالوردة في الأكمام.
وجدت نفسها عاجزة تماما عن إدراك مبرر لهجوم نساء الجيران المتجمعات عليها على حين غرة، وإرغامها على التمدد فوق سرير خشبي عتيق. أربع نساء كان يمسكون بقوة فولاذية من يديها وساقيها.
انتبهت من خلال دموعها إلى أمها وهي ترفع فستانها، ويد أخرى تعريها من الأسفل.وثمة أيد أخرى ُتباعد بين فخذيها.رأت أم منصور تفرك بمادة سائلة عضوها، ثم تتركه لتعود إليه ثانية، بينما النساء الباقيات يرددن الأدعية والصلوات.
لم تر أم منصور بهذه البشاعة من قبل،وهي تقرب شفرة حادة من بظرها وتبدأ بطعنه طعنة واحدة. أحست بألم مريع، ورعب اسود لا يمكن تعريفه، ثم بدماء دافئة بين فخذيها. أحست أن جزءا منها قد ذُبح وأُلقي بإهمال في قماش ينضح بالدم. بدأت الأيدي تضغط على مكان الجرح لإيقاف الدم المتدفق.
انتبهت إلى أمها بدون شعور. كانت ابتسامة ناصعة، فرحة ترفرف فوق شفتيها.ثم سمعت أصوات التهاني :
ـــ مبروك.. مبروك.
ــــ ستعيش حياة شريفة بعد قطع عرق الشهوة الملعون.
سمعت أمها وهي تقول، لقد نزفت كثيرا عند ختاني.
ــــــ ستنطفيء النار تلهب في جسدها، وتعيش عيشة نقية تفتخرون بها.
شاهدتهم يتوجهون إلى أختها الصغيرة، التي كانت تتابع كل شيء بعينين مذعورتين، فقد أتى دورها في الطقس الدامي.. كن يحاولن الإمساك بها..
كل ما تتذكره أنها أرادت أن تصرخ بملء عذابات نزيفها الدامي،دفاعا عن تلك الصغيرة، التي تحاول نفس الأيدي الآثمة جرها إلى الطاولة الخشبية التي كانت أم منصور تنتظر بشفرة أو سكينة حادة قربها في انتظار ضحيتها. لم تستطع أن تميز.. أغلقت عينيها.

عاشت كما أرادها لها الجميع أن تعيش، مثل معظم نساء القرية بعيدة عن الشهوة. لم تحس بعضوها الذي بتر منه البظر. هكذا دخلت في أحضان زوجها، الذي كان يرتجف فوقها من الشهوة، بينما تحتفظ هي بهدوئها، لعدم إحساسها بأي شيء في تلك اللحظة الحميمة.منذ زواجها لم يتعرف جسدها على البراكين والعواصف، بل بقي خامدا وساكنا ومؤدبا.


* * * *

وهي تنظر إلى بحيرة جنيف، ونافورتها التي تقذف بمياهها إلى مسافات عالية، تذكرت دون إرادة منها معاناتها في معسكر اللاجئين في ( سيلوبي) بتركيا، الذي كان مزدحما بالرجال والنساء والأطفال
الذين فقدوا حضن الوطن. خلال سنوات الانتظار المريرة كالعلقم، ظلت تعيش وكأنها قشة لاحول لها ولاقوة وسط نهر يخط طريقه بنفسه. حمدت الله كثيرا على أنها لم ترزق بطفل. فهي قطعا لم تكن لتتحمل تعرض فلذة كبدها إلى كل الأهوال التي عاشتها بعد اضطرارها إلى ترك بيتها بسبب تهديدات من كانوا أقرب إليها من الوريد من جيرانها حتى الماضي القريب، والذين أن تعرضوا بعد الاحتلال إلى موجة غريبة من الحقد والكراهية لكل من لا ينتمي إليهم. في انتظار الفرج مات زوجها كمدا وحزنا، بعد أن رفض طلب لجوئهم من قبل عدة دول. ظلت وحدها تتشبث بالحياة وتنتظر، وتزور مكتب الأمم المتحدة للاجئين في المعسكر.

عندما دخلت مدينتها الجديدة لم تشعر بالغربة وهي ترى شوارعها، وأزقتها لأول مرة. كانت جنيف تبدو لها مدينة أليفة،وكأنها قد زارتها من قبل. مع الأيام أخذت تحس بأن المدينة لا تتصرف بفظاظة، تجاه الغرباء الذين قادتهم أقدارهم ليكونوا جزءا من نهارات هذه المدينة ومن لياليها التي تحيط بها أنوار البارات والمقاهي والمطاعم والفنادق والجسور الغافية فوق مياه البحيرة.

ازدادت ثقتها بنفسها عندما عثرت على عمل في تنظيف إحدى الشركات، كل الذين يعملون معها كانوا من البرتغاليين رجالا ونساء. لم تٌمض وقتا طويلا كي تعلم بأن البرتغاليين يحتكرون أعمال التنظيف في جنيف عموما، ولولا الصليب الأحمر لما وجدت هذا العمل، لأنهم كانوا ينحازون إلى أبناء جلدتهم في العمل.
مع الأيام تآلفت مع زميلاتها في العمل.أخذت تصغي إليهن وتستغرب لمرحهن وحبهن للحياة. لم تكن تود إطلاقا أن تتذكر حياتها التي كانت عبارة عن كبوات وأحزان وخيبات أمل وعتمة وخوف وانكسار وظلام لا ينتهي.
كانت تخرج معهنّ وخاصة في الأيام المشمسة التي كانت تلمع فيها صفحة البحيرة،وكأنها مرآة زرقاء.تحت ظلال الأوراق الباسقة المعمرة التي كانت تنظر بنظرات ثابتة ولهى لم تتغير من عقود صوب البحيرة. كانت زميلاتها يدخن بشراهة ويشربن الجعة، ويضحكن بصوت عال دون اهتمام بالمارة، ثم يثرثرن وهن يتنقلن من موضوع إلى آخر.كانت تستمع إلى حديثهن عن علاقاتهن الصميمة بخجل، تحمر خلالها خداها كتفاحتين ناضجتين.
ـــــ كيف أمضيتِ يوم إلاجازة ؟
ـــــ مع زوجي طيعا..شربنا، مارسنا الجنس، لم يلبث هو أن أدار لي ظهره، وبدأ يشخر كالعادة.
ضحكت زميلتها بخبث،وهي تنفخ دخان سيكارتها في وجه البحيرة.
ـــــــ أعلم إلى ماذا تلمحين ياماجنة.. طبعا استعنت بالزوج المطيع، لأن اسطيفان تركني في منتصف الطريق.
ــــــ وماهو أخبار زوجك المطيع ؟
ـــــــ إنه رائع ومطيع للغاية..لا يتركني إلا بعد أن يقوم بواجبه على أحسن مايرام.
ـ لولا الزوج المطيع لكانت حياتنا جحيما لا يطاق.

في استراحة يوم ما سحبتها زميلتها ماريا بعيدا عن أعين الآخرين. ظلت ترمقها لعدة ثوان بخبث ظاهر من عينيها الجميلتين التي تبدوان وكأنهما شربتا زرقة البحر...مدت يدها إلى حقيبتها اليدوية وهي تقول :
ــــــــ إليك زوجي المطيع..المطيع للغاية، المطيع دائما وأبدا.. رغم قصر قامته فهو يرفعني في كل مرة إلى مملكة السحاب..يقوم بمهمته بهمة عالية بعد أن أنظم سرعته، ويظل يعمل دون كلل، حتى آخر آهاتي على السرير.


لم تشاهد قطعا صورة الدهشة التي ارتسمت على قسمات وجهها لحظتئذٍ. داعبت ماريا شعرها بمودة، وهي تقول:
ـ معظم النساء يملكن أزواجا مطيعين كهذا ؟
اكتفت بالصمت، ثم عادتا إلى العمل بعد إنهاء ماريا تدخين لفافتها.


* * * *

استقبلت في جنيف نهارات جديدة،وودعت ليالٍ عديدة. في ليلة مرصعة بالنجوم، اكتشفت بأصابعها جسدها المنسي منذ سنوات. أشفقت على نفسها، وعلى جسدها المطعون. داعبته بشفقة بعينين دامعتين، وكأنها تداعب رأس طفل يتيم، غابت الفرحة عن حياته إلى الأبد.
مدت يدها المرتجفة إليه.كانت تشعر بالخجل، وكأن عيونا سرية تتأملها من كل جهة. ازداد خدها احمرارا، وازداد وجيب قلبها، وكأنه قلب إنسان مذعور، مقدم على مغامرة غير محسومة العواقب والنتائج.
دبت فيه الحركة، وأخذ يتحرك ذهابا وإيابا بانتظام، بهدوء وسكينة. لأول مرة أحست منذ سنوات إنها تسترد جسدها المنسي، والمنفي منذ سنوات طويلة. مع ازدياد حركة الزوج المطيع، أخذت تحس بسخونة تعتريها من رأسها حتى أخمص قدميها.مسحت من ذاكرتها كل سنوات الظلام، أخذت تعيش بكل حواسها هذه اللحظة الفريدة والغريبة.

نهضت من مكانها وهي تشعر بارتياح كبير. تناولت الزوج المطيع بمحبة كبيرة. مسحته بعناية بالغة وكأنها تداعبه بامتنان. ثم وضعته في خزانة ملابسها، ليرقد هناك بهدوء.
عادت للاسترخاء مجددا، وهي تنظر بامتنان صوب الخزانة التي كان يرقد في زاوية منها الزوج المطيع.

9.11.2010