كان ألم المخاض شديدا إلى درجة أن روحها تكاد تخرج من جسدها، هذا حملها الثامن وهي لم تتعدى الثلاثين من عمرها.
كان زوجها فرحا يوم أبلغته أنها حامل و أنهما ينتظران مولودا، مع الوقت بدأ بطنها ينتفخ وصار واضح المظهر، علمت نساء القرية أنها على وشك وضع مولودها.
حينما فحصتها الطبيبة أخبرتها أن حملها أنثى، هي بدورها أخبرت زوجها بذلك، رأت بريقا حزينا في عينيه و لو أنه تصنع تلك الابتسامة الباردة كما الصقيع، عرفت أنه كان ينتظر ولدا، ولو لم يبح لها برغبته في ذلك لكن ملامحه فضحته.
ــ quot; هي بنت سيرزقنا الله أخاهاquot;
قالت الجملة لأجل أن تمنح له الأمل مجددا وقد تتحقق رغبته إن شاء الله ذلك.
مرت سنتين، حبلت المرأة مرة أخرى وكان حملها بنتا إلى أن صارت لها سبع بنات على رؤؤس بعضهن البعض كما تقول العجائز.
كان ينزعج كل مرة تضع فيها بنتا، يريد الاعتراض فتخبره أنها إرادة الله و لا دخل لها في ذلك و حين يُغلظ في الكلام تفحمه بقولها أنها بذرته التي وضعها فيها فيسكت إلى حين.
قبل أن تحبل مجددا دعت الله متضرعة أن يرزقها ولدا حتى تُخرس الألسن وتنطفئ العيون الفجة البرّاقة التي تنظر إليها كلما خرجت لحاجة.
حبلت للمرة الثامنة و بعد معاينة عملتها عند الطبيبة المختصة في أمراض النساء أخبرتها بنوع حملها بأنها بنت وباركت لها فيها.وقتذاك كان زوجها بالخارج ينتظرها لمّا حملّق فيها منتظرا البشرى ؛ أحجمت عن الكلام لكنها تشجعت و أخبرته بأنها ستضعها أنثى، تجهم وجهه، أحمرت عيناه غضبا كجمر، وبلغة وقحة أسمعها إياها معنفا قائلا لها: quot; أتبعيني يا أم البنات.quot;
طأطأت رأسها و تبعته إلى أن ركب سيارته المترهلة القديمة من نوع الرونو 12، لما جلست على المقعد بجانبه الأيمن قال لها مهددا: quot; حين تضعين المولودة تعالي لوحدك، لو تصطحبينها معك سأطردك، أنظري لمن تعطينها.quot;
كان في مستشفى المدينة ممرضة طويلة رشيقة اسمها حياة، تعمل في جناح التوليد من عشرين سنة، يحترمها الجميع لنبل أخلاقها و احترامها للغير و تفانيها في عملها، كانت اجتماعية إلى أبعد الحدود، عملها في التوليد مكّن لها التعرف على نساء كثيرات، أطفال كثر هي من منحتهم أسماء جميلة، حتى أن بعضهم لما كبر أخبرتهم أمهاتهم بأن الممرضة حياة هي من أسمتهم بأسمائهم الجميلة، تعرّف عليها بعض الذين يقطنون المدينة إلا أن الغرباء والذين يسكنون القرى و البلديات المجاورة فقد سمعوا بها و لم يروها، لم تتح لهم الفرصة للالتقاء بها رغم فضولهم الكبير.
ذات يوم وهي راجعة إلى المنزل صحبة زوجها عبد الباسط الذي يعمل ممرضا كذلك بنفس المستشفى وجدت امرأة تنتظرها بباب العمارة، هذه المرأة تعرفها جيدا هي زوجة مدير المدرسة الابتدائية السيدة جيهان؛ سألتها في أدب بماذا تخدمها، فأجابت السيدة جيهان أنها تريدها في أمر شخصي وخصوصي فاعتذرت من زوجها بالسماح لها ببعض الدقائق، زوجها عبد الباسط أعطاهن الحرية و قال في وقار و بكلام موزون خذن راحتكن.
طلبت منها السيدة جيهان بلغة تكاد تكون الرجاء أن تُعلمها إن وجدت طفلا في المستشفى لا يحتاجه والداه أو طفل ابن خطيئة تبرأ والداه و تخليا عنه، توسلتها أن تخبرها بذلك؛ فاستجابت حياة لطلبها، متعاملة معها بإيجابية فهي تعرف مدى حساسية السيدة جيهان التي كانت عقيما.
في نهار عاصف دخلت امرأة لم تتعدى الثلاثين من عمرها غرفة التوليد، و هي تضع مولودها أخبرت حياة بما يردده زوجها دائما عن هذه البنت التي إن أقدمت بها كيف سيعاقبها ويطردها بسبب جنسها. توسلتها إن كانت تعرف أهل بيت يبحثون عن طفلة لتربيتها.
تذكرت حياة السيدة جيهان والوعد الذي قطعته لها، ففرحت حياة و قالت هناك من يهتم لأمر هذه الطفلة.
خرج المولود الجديد إلى الدنيا، كانت بنتا في جمال الشمس، أسمتها حياة وعد، وقررت الإسراع في حمل البشرى إلى السيدة جيهان. غادرت المرأة المشفى في اليوم نفسه بعدما حكت لزوجها الذي كان، أخذها و انصرفا في حال سبيلهما دون السؤال حتى عمن أخذا ابنتهما.
أخبرت حياة الإدارة بطلب السيدة جيهان و التي وضعت طلبا خطيا من زمن في المستشفى. لمّا كلّمت حياة السيدة جيهان ردت عليها بأنها غيّرت رأيها و لم تعد تهتم بأمر الأولاد على الإطلاق؛ كان الرد مؤثرا؛ بقيت حياة مرتبكة، حائرة كيف تعمل مع هذه المولودة التي تحملت مسؤوليتها الثقيلة.
كانت للسيدة حياة أخت تفوقها سنا توفقت بمرض السرطان، أحبها الجميع و حزنت أمها عليها كثيرا، لم تتعدى سنة عن وفاتها؛ فكّرت حياة أن تأخذ وعد إلى أمها إلى أن تجد لها كفيلا. كانت أم حياة عجوزا إلا أنها لا زالت تتمتع بلياقتها و صحتها.
باتت وعد ليلة كاملة مع العجوز الموجوعة في ابنتها المتوفاة و التي لم تستطع نسيانها رغم كل هذه المدة من الزمن. حظّرت لها الحلييب في رضاعة زجاجية و أشربته إياها، غيرت لها حفاظها فنامت كملاك إلى الغد.
في الصباح الباكر هاتفت ابنتها حياة : quot; سأكفل الطفلةquot;.
لم تصدق حياة ما سمعته من أمها فطلبت منها إعادة ما قالت، كانت نفس الجملة.
قالت لها: quot; إن كانت هذه رغبتك فلك ذلك.quot;
إلا أن أمها أضافت بيقين: quot; إن كانت إلهام قد رحلت فهذه إلهام أخرىquot;.
بدأت الطفلة تكبر، صار عمرها خمس سنين، الجميع سعيد بها. وعد فرحة بأمها وأبيها الذي كان يناديه الجميع عمي الطاهر.
في أحد الأيام سمع عمي الطاهر دقا على الباب الخارجي لمنزله، لما فتحه وجد امرأة تسأله إن كان هذا منزل عمي الطاهر الخزنجي، أخبرها أنها في العنوان الصحيح.
قاتلت أنها أم البنت وعد وتريد استرجاع أبنتها التي لم تراها من خمس سنين.
ــ quot; لقد منحتني إدارة المستشفى عنوانكم وأخبرتني بلقب من يكفل ابنتي.quot;
قام عمي الطاهر بواجب الضيافة، رحب بها ومن ثمة ناد زوجته، أخبرها عمن تكون المرأة وعن الغاية التي جاءت لأجلها. تحجرت العجوز وتسمرت في مكانها، تجمد الدم في عروقها، نزل العرق باردا بين ثدييها المهترئتين المتدليتين إلا أنها ظلت صامتة ثم أمرتها بالخروج دون إضافة كلمة واحدة، وسألتها أي قلب تحمل داخلها.
تذرعت المرأة بأعذار و أسباب، لم تعيرها العجوز سمعها و طردتها من منزلها ؛ هددتهم المرأة بالمحكمة، وطبّقت الوعيد.
مرت أيام وأوصل ساعي البريد استدعاء حضورهم إلى المحكمة، أمضى عمي الطاهر ورقة استلام الاستدعاء؛ أخبر زوجته بما تلقّاه اليوم و بدأ يفكر فيما سيصنعه مع هذه المرأة.
لما استمع القاضي للأعذار التي سردتها المرأة ثم تكلم عمي الطاهر فأوجز و أبلغ و أجاد عن هذه الطفلة التي لم يسأل عنها أحد مدة خمس سنين كاملة و تخلى عنها أهلها بكل برودة دم، دون وازع أمومة أو أبوة و الآن بعدما صارت قريبة من القلب أكثر من الأولاد الذين أنجبهم من صلبه يريدون أخذها منه. لقد أقسمت زوجته العجوز بأغلظ الإيمان لن يأخذها أحد كان من كان و إن تجرأ وفعل ستموت، هددت بأنها ستلقي بنفسها من الشرفة العالية.
أُجّلت المحاكمة مرات عديدة إلى أن جاء اليوم الفصل، كان القاضي قد أمر بإحضار الطفلة وعد، أمر القاضي الأبوين الحقيقيين و الأبوين الكفيلين بالوقوف، و قال بصوت ضاحك وبإشارة من يده لوعد أن تعالي بنيتي، استجابت للقاضي وشجعها عمي الطاهر على الاقتراب منه دون وجل، حضّنها القاضي، ثم قبّلها و أخرج من جيبه قطعة سُكرية وبلغة الآمر الذي لا يقبل النقاش : ــ أرجعي إلى أبوك هي.
اتجهت مباشرة عند عمي الطاهر وتركت أمها و أبوها واقفين واجمين كتمثالين أصابتهما اللعنة فتحجرا.
قال القاضي بعدها مباشرة: ــ لقد عرفت أبويها، أغلقت القضية، القضية التي بعدها.