صلاح سليمان: اذا أردت البحث عن شيء غريب وغير مألوف في العاصمة التشيكية براغ ـ فعليك زيارة المتحف الشيوعي الذي يقع في قلب المدينة القديمة بالقرب من ساحة quot;فاتسلافquot; الشهيرة، حيث كانت العاصمة التشيكية هي إحدى أهم عواصم دول الستار الحديدي الذي يدور في فلك الإتحاد السوفيتي السابق في أوج الحقبة الشيوعية السابقة، لكن لم يستمر الحال هكذا ـ فقد طالت الثورة الشعبية في عام 1989 تشيكوسلوفاكيا وانفك عقدها هي الأخرى أسوة بباقي الدول الشيوعية السابقة.. وعلى الفور، راحت تتخلص من ذلك الإرث الشيوعي الثقيل وأصبحت تبدو لزائريها الآن دولة غير الدولة ـ فدخلت المجموعة الأوروبية عام 2004 وأصبحت عضواً في حلف الناتو عام 1999 وتغيرت شوارعها وأصبح فيها الكثير من المتاجر والمطاعم والبنوك التي ترمز الى الرأسمالية وراحت على أثر ذلك معالم الشيوعية تختفي رويداً رويدا، حتى أن زيارة المتحف الشيوعي تبقى من الأهمية بمكان، لأنها تذّكر بحقبة تاريخية هامة في التاريخ الدولي الحديث إستمرّت من عام 1948 حتى سقوط الشيوعية في عام 1989.

ماكدونالدز على ابواب المتحف
نصعد درجات سلم المتحف متجهين صوب باب الدخول ـ وما إن ندلف الى الداخل حتى تستقبلنا تماثيل أساطين وأعلام الشيوعية مثل لينين وستالين وغيرهم وتبدو هنا المفارقة المثيرة ـ إننا في اللحظة نفسها التي تصافح فيها أعيننا تلك التماثيل المخيفة نجد أن خلفنا على الجهة المقابلة من الشارع يقع أحد رموز الرأسمالية وهو مطعم quot;ماكدونالدز quot; الشهير الذي يمكن رؤيته من ذلك الموقع بسهولة، على الفور يعيش الإنسان لحظات بين صورتين متناقضتين ونظامين مختلفين سقط أحدهما وبقي الآخر مستمراً، غير أن هذه التماثيل المسكينة تبقى عبرة للنظام الذي سقط والذي كانت يوماً ما شامخة في الميادين والأبنية الحكومية الهامة قبل أن تسقط وتختفي حتى ظهرت من جديد رهينة في هذا المتحف المثير والذي لا تتوقف فيه الإثارة على الجيل الجديد الذي لم يواكب العصر الشيوعي بل إن الإثارة نفسها تبقى عند الجيل القديم الذي كان شاهداً يوماً ما على تلك الحقبة.

رغم أن قلب العاصمة براغ فيه الكثير من المباني الأثرية والأماكن السياحية الهامة، إلا أن المتحف الشيوعي يبقى لديه بريق خاص فهو المكان الوحيد الشاهد على زوال حقبة لم تعد موجودة ـ إختفت بكل معالمها وصناعتها لذلك فإن رؤية أيٍ من تلك التماثيل أو الأدوات القديمة يجعلك تقف على تاريخ الشيوعية في تلك المنطقة بكل تفاصيلها.
بعد شراء بطاقات الدخول مرتفعة الثمن وبعد المرورفي البهو الذي تنتصب فيه التماثيلندخل الحجرات الأخرى حيث إنها متداخلة وإن كل واحدة منها تحكي جزءا من التاريخ الشيوعي في تشيكيا الحالية أو تشيكوسلوفاكيا السابقة ـ في الحجرة الأولى نرى منتجات الصناعة التشيكية الشيوعية مثل الدرجات والدرجات البخارية وعددا من الأدوات الزراعية وصورا عديدة من صور الدعاية أو quot;البروباغندا quot; الشيوعية في ذلك العصر والتي كانت تشتهر بها تلك الدول في ذلك الوقت، وهي تظهر الى أي مدى كانت الصناعات الشيوعية في تلك الآونة متخلفة عن نظيرتها الغربية بكثير.
حجرة أخرى نرى فيها المنتجات الغذائية مثل المعلبات التي كانت تباع في تلك الأوقات و كذلك المشروبات المشابهة لمشروب الكوكاكولا الذي لم يكن مسموحاً به في أثناء الحكم الشيوعي وقبل أن نهم الى حجرة أخرى نلقي نظرة على مكينة quot;الكاشيرquot; القديمة، التي كنا نراها في بعض متاجرنا العربية.

البوليس السري في المتحف
في المتحف أيضاً قسم لأدوات البوليس السري الذي كان له دور كبير في العصر الشيوعي، إضافة الى عينة من ملابس الشرطة وشرائط وأفلام تسجيلية تعرض بعض حقائق الشيوعية ـ على سبيل المثال أعدم في تشيكوسلوفاكيا في عام 1989 وحده 178 مسجونا وتشير سجلات السجون الى أنه كان هناك 257 ألف مسجون سياسي و 200 ألف جاسوس كما أنه كان قد تمت إقالة وطرد 500 ألف موظف من الحزب الشيوعي في حركة التطهير التي أعقبت ربيع براغ عام 1968.

إن فكرة تأسيس المتحف ترجع الى رجل الأعمال الأميركي quot;جلين سبيكرquot; الذي درس العلوم السياسية وتخصص في السياسة الخارجية الروسية قبل أن يذهب الى براغ قبل 10 سنوات ليقيم هناك ويؤسس هذا المتحف ـ لقد استغرق تجهيزه عدة أعوام ظل فيها سبيكر يجمع المقتنيات التي كان يشتريها في الغالب مقابل المال، حتى أصبح المتحف حقيقة واقعة.
المتحف بصفة عامة يمكن تقسيمه إلي ثلاث حقب يحكيها عبر ردهاته ومقتنياته وهي حقبة الحلم بالتخلص من الشيوعية وحقبة الحقيقة ثم حقبة العمل التي تلي سقوط الأيديولوجية وهذا يجعل المتحف ليس فقط متحفا لعرض بعض المقتنيات بل معرض تثقيفي وتعليمي للحقبة الشيوعية ـ حيث إنك تستطيع أن تلتحق بإحدى الغرف التي تعرض أفلام التاريخ الشيوعي حيث نشاهد إعلان قيام جمهورية تشيكوسلوفاكيا كاتحاد بين التشيك وسلوفاكيا عام 1918.ثم يعرج بك تاريخ تلك الدولة الى الوقت الذي تزايد فيه تهديد الحكومة النازية آنذاك في المانيا لإجبار تشيكوسلوفاكيا عام 1938 على التنازل لألمانيا عن منطقة السوديت المتنازع عليها.ثم نستطيع أن نرى تلك الحقبة التي غزت فيها القوات الألمانية تشيكوسلوفاكيا قبل الحرب العالمية الثانية وإعلان قيام حكومة وصاية التشيك ومورافيا بعد انفصال سلوفاكيا بتحريض أيضاً من المانيا، ثم ننتقل إلى تحرير تشيكوسلوفاكيا من النازي عام 1945 على يد القوات الروسية ومن ثم إعادة تشكيل جمهورية تشيكوسلوفاكيا مرة أخرى وقبل أن يعاود التاريخ كتابة سطوره بالطريقة نفسهاعن هذه البلاد ولكن بشكل مختلف حيث انفصلت مرة أخرى سلوفاكيا عام 1992 ولكن بطريقة سلمية حيث أطاحت الثورة الشعبية بالحكومة التشيكية وأُعلن قيام جمهورية التشيك عام 1993 واختير فاتسلاف هافل أول رئيس لها وأصبحت جمهورية التشيك عام 1999 عضواً في حلف (الناتو) وعام 2004 في الاتحاد الاوروبي.

ربيع براغ
لايمكن الانتهاء من زيارة المتحف حتى نرى فيلماً قصيراً عن ربيع براغ عام 1968 أشهر حدث مرّ على البلاد إبان فترة الحكم الشيوعي ـ فهو يذّكر جيداً بالتجربة التشيكية الشهيرة نحو الديمقراطية والتي إمتدت من 5 يناير عام 1968 عندما بدأ ألكسندر دوبتشيك بعد تسلمه السلطة كأمين عام للحزب الشيوعي إصلاحاته الديمقراطية التي لم تستمر طويلاً حيث سحقت الدبابات الروسية تجربته التي ما زال التشيك يفتخرون بها ويعتبرونها حدثاً ثقافيا ً وفكريا، بل ايقونة من ايقونات جيل الستينات والسبعينات التحرّري في أوروبا، من المعروف أن ذلك الحدث قد تحول الى حدث إبداعي على نطاق أوروبا كلها.
قد تبدو المفارقة الكبرى هنا قبل أن تهم بمغادرة براغ عائداً عندما يهمس في أذنك مترجم الرحلة وهو يقول لك إن آخر الإحصائيات التي صدرت هنا تقول إن واحدًا من كل اثنين ما زال لديه اليقين بأن الحقبة الشيوعية هي الأفضل.