كامل الشيرازي من الجزائر: تتذكر الجزائر هذا الأسبوع عملاقها المسرحي عبد القادر علولة (1939-1994) هذا الوجه البارز في عالم الفن الرابع الذي طوّر مسرح الحلقة بمعية مواطنه quot;ولد عبد الرحمان كاكيquot;، وعمل على ربط علاقة وطيدة بين الفن المسرحي والتراث الشعبي على تنوع ضروبه ومستوياته.
وتزامنا مع الذكرى 17 لرحيل عبد القادر علولة، تستقرئ quot;إيلافquot; جوانب مضيئة في حياة هذا الرجل/الرمز الذي لا يزال حيا رغم انقضاء سبعة عشر عاما عن رحيله.
تعتبر مسيرة عبد القادر علولة تجربة رائدة في المسرح الجزائري الحديث، إذ اعتنق أب الفنون ممثلا ومكنه اجتهاده وبراعته من الخوض باقتدار في الكتابة الدرامية والإخراج.
وُلد علولة بمنطقة الغزوات التابعة لمدينة تلمسان (800 كلم غرب الجزائر)، درس الدراما وفنون العرض بباريس، قبل أن يبدأ ممارسة المسرح في خمسينيات القرن الماضي، وهو فتى صغير، لمع بشكل خاص مباشرة بعد استقلال الجزائر في الخامس تموز/يوليو 1962، حيث أسهم في تأسيس المسرح القومي، وصار إحدى أعمدته رفقة الراحلين quot;مصطفى كاتبquot;، quot;ولد عبد الرحمان كاكيquot;، quot;عبد الحليم رايسquot; وquot;رويشدquot;.
وكان علولة السبّاق رفقة كاكي بإدخال شخصية quot;المدّاحquot; أو القوّال (الحكواتي) العلامة الأبرز لمسرح الحلقة، حيث يتوجه quot;القوّالquot; إلى الجماهير في جو حداثي موشى بنظرة اجتماعية ناقدة وفكاهة لاذعة جعلت المتلقين يتجاوبون بحماس مع العروض، تبعا لاعتمادها على الارتجال والفرجة ضمن حيز شعبوي حميمي يغرف من تراث الشعر الملحون والأقوال المأثورة.
وسمح له ارتقائه كمدير لمسرح وهران الجهوي سنة 1972، الانفتاح على المزيد من التجارب الجديدة مثل إسقاطاته لرؤى المسرحي الألماني الشهير quot;برتولد بريشتquot; ونظريته حول كسر التباعد وتحطيم الجدار الرابع، مثلما اهتم علولة أيضا بالعمل الجماعي وهو ما جسّده على صعيدي التأليف والاخراج.
ويرى الباحثان quot;أحمد البيوضquot; وquot;شريف الأدرعquot; أنّ تأسيس علولة للتعاونية المسرحية quot;الفـاتح مايوquot; شكّل مبادرة عظيمة لتحرير المسرح الجزائري من عبودية القوالب وتقاليد الفكر المسرحي الغربي، وساعد على تحقيق المعادلة الصعبة بين التراث المسرحي العالمي والتراث الشعبي الجزائري، فانعكس هذا على نوعية العروض.
وحاول علولة عبر الكتابة والتمثيل والإخراج أن يطور مسرحاً شعبياً، فعمل مع الشركات والمدارس، وحوّل المشاهدين إلى عناصر واعية تتفاعل بعفوية مع ما يُعرض أمامها، وهو معطى حاسم جعل مسرح وهران (430 كلم غرب) يتحوّل إلى قطب ضخم للأنشطة الثقافية في ثمانينيات القرن الماضي.
ويعترف علولة في محاضرة ألقاها ببرلين في ربيع 1987، أنّه اكتشف مسرح الحلقة من خلال احتكاكه بواقعه الحي، وزادت جولاته في المصانع والثانويات والمقاهي والساحات العامة من رغبته في قولبة شكل مسرحي جديد، واقتضت ثورته على النمط الكلاسيكي التخلي تدريجيا عن الديكور، إلى أن انتهى به الأمر إلى الاكتفاء بالإكسسوارات الضرورية فحسب وإدارة ممثليه وسط دائرة مغلقة استوحاها من عراقة مسرح الحلقة الشعبي، حيث كانت عملية إحماء المؤدين وتغيير ملابسهم واستراحاتهم تتم أمام أعين المتفرجين، تماما مثل بينهم بعيدا عن الكواليس في صورة فرجوية رائقة.
وقال علولة في كتاباته أنّ هوسه الشديد بالمسرح الشعبي نبع عن رغبته في تحقيق التلاحم بين الممثلين والمتلقين عبر دائرة تتحطم فيها كل الجدران والطابوهات، بعيدا عن الانعزالية التي طبعت سلوك المتفرجين داخل الصالات المغلقة ما أفقد اللعبة المسرحية ماهيتها وجعل الممثلين في حالة تسلل مزمن، وما ترتب عن ذلك من اجترار وملل وخطابية سياسية مسطّحة.
كما يقرّ الراحل بتعلمه كثيرا من الجماهير، مفسرا اشتغاله المكثف على المسرح الشعبي، برغبته التوجه نحو مواطنيه الكادحين وعموم الفئات الشعبية، ملفتا إلى أنّ الجزائر تمتلك تراثا قصصيا على ما ينطوي عليه من حكائية، ذا طبيعة مسرحية وينم عن خيال مسرحي وفهم متميز للشخوص ومتطلبات المشاهد وسائر عناصر البناء المسرحي، لذا اقترح أن يتعامل المسرحيون مع الفنون الإبداعية التي ابتكرتها الحضارات العربية القديمة، طالما أنّ الأذن العربية كانت ولا تزال بمنظوره محكا مدرّبا لالتقاط الجمال واستكشاف مآقيه وتشكلاته.
ولعلولة كم هائل من المسرحيات الناجحة، أشهرها مونودرام quot;حمق سليمquot; (1972)، ثلاثية القوّال (1980)، الأجواد (1985) اللثام (1989)، إضافة إلى مسرحيات quot;التفاحquot; (1992)، quot;أرلوكان خادم السيدينquot; (1993) والعملاق (1994) التي لم يكمل كتابتها بسبب موته التراجيدي برصاصات إرهابية غادرة في الثاني عشر آذار/مارس 1994.
ويقول quot;محمد بهلولquot; مدير معهد تنمية الموارد البشرية بوهران، أنّ علولة ظلّ إنسانا متجذرا في مجتمعه، وكان رجلا ذو بنية كبيرة سواء من حيث الجسد والفكر والجانب الإنساني.
بدوره، يشير الباحث quot;محمد بن صالحquot; أنّ أعمال علولة تختصر عبقرية إبداعية وارتباط وثيق بالمجتمع، ولا تزال من مواضيع الساعة، مضيفا أنّ مسرحياته لم تتأثر بعامل الزمن بالنظر إلى المواضع التي قاربتها.
من جانبه، يرى الممثٌل والمخرج أحمد بن عيسى، أنّ الاقتراب من مسرح الراحل، يقتضي الاطلاع على فكر علٌولة، ملفتا إلى أنّ صاحب مونودرام quot;حمق سليمquot; كان راضيا عن مسرحه شكلا ومضمونا، وكان quot;بريشتيا ملتزماquot;، فقد واظب دائما على الدعوة لطرد المدّاح من الفلكلور، والإبقاء على هندسية الحلقة وشكلانيتها.
وتشدّد quot;رجاء علولةquot; أرملة الراحل التي تدير مؤسسة تحمل اسمه، أنّ الارث الذي تركه علولة نفيس وحافل بقوالب تراثية متفردة، ما يقتضي تثمين أعمال الراحل لدى طلائع الجيل الجديد.