م. ج. حمادي: يقام حاليا في مدينة فينيسيا، وإلى نهاية الشهر 11، في بينالي فينيسيا الشهير. وضمن هذا الحدث الكبير، يعرض جناح العراق: أعمال طليعية، لفنانين يعيشون في المنفى، مع عمل سينمائي عن الفنانين الشباب داخل العراق. وهذه مداخلة نقدية لهذا الحدث الفني الجديد.


تاريخ الماء
بعد سنوات طويلة، وكما جاء في كاتالوك البينالي: آخر مشاركة للعراق تحمل بعض الصيغة الديمقراطية كانت في عام 1975. وبما ان المعرض العراقي الحالي سمي (الماء الجريح) فهذا يستلزم استعراض تأريخ هذا الكيان الحيوي: الماء.
منذ التاريخ القديم عانى العراق من أزمة المياه، وخصوصا مدن الجنوب. حين جاء حمورابي في إلى الحكم، سنة 1665 ق.م.، اهتم بمناطق الامبراطورية، واعتنى بالحياة العامة وبقنوات المياه؛ بحيث اصبحت تخدم استراتيجيته في الدفاع عن بابل والمدن الاخرى. ووضع القوانين لتنظيم امور الامبراطورية، ولا زالت توجد المسلة المشهورة، التي كتب عليها قوانينه في متحف اللوفر، من حسن حظنا كعراقيين، فهو اول من سن القانون في العالم. وتحت حكمه تطورت المدن الجنوبية العظيمة. وفي عام 1645 ق.م. ابن حورابي، سامسو يلونا، لم يفعل كما فعل ابوه، اهمل المدن والعباد، فواجه تمردا ضده في مدن الجنوب.
ولايقاف التمرد قطع عنهم الماء، فحوّل مجرى نهر الفرات؛ وماتت المدن المقدسة: الوركاء، اريدو، نيبور، ايسن، لارسا وغيرها، فضعفت البلاد؛ وبقى سامسو يلونا ومن أخلفه، حكاما لمنطقة بابل فقط، لان المناطق التي تحيط: ضعفت او اندثرت. كل هذا ادى، من بعد، إلى اختفاء سلالة حورابي نهائيا عن الوجود.
وفي اعوام السبعينات، من القرن العشرين، خطط لتراجيديا حديثة، أدت إلى معاناة الفلاح العراقي، في الجنوب، من شحة المياه، فمات الزرع والضرع، كما يقال في الجنوب، وماتت حتى الطيور المهاجرة، فعافت الكلاب اكلها، لأنّ أهوار الجنوب كانت مناطق استراحة وغذاء وماء.
هذه الاقوام استوطنت هذه المناطق من العصر ما قبل السومري، أي قبل تاريخ اختراع الكتابة منذ 3500 سنة ق.م. الاختراع الذي غير مسيرة الحياة الإنسانية.
وتلك الاقوام أما ان تكون من الجنوب: مناطق الجزيرة؛ فهي اذن اقوام سامية، او من الشمال، مناطق حضارة سامراء وحسونة، اي من مناطق المدن الحالية: سامراء، تكريت، فلوجة وغيرها.
ونرى اشكال السيراميك، منذ فترة الالف الخامس قبل الميلاد، تتشابه ما بين مناطق الجنوب وشماله، فالبلاد اذن بلاد واحدة.
لكن مشعلي الحروب والدمار، اوجدوا نظريات عنصرية، تافهة، بأنّ هؤلاء الاقوام (المعدان) من الهند وإيران.. تصوروا ذلك.
وحضارة الهند وإيران قامت على ما اكتشفته بلاد النهرين.
واذا اخذنا بنظريات الهجرات التي جاءت من الشمال: مناطق سامراء وحسونة، فلقد وجدوا هناك، في الجنوب، اقوام يسمون بالفراتيين والدجيليين؛ لانهم سكنوا حول دجلة والفرات.
اذن فكرة تجفيف مخزون المياه العظيم في الجنوب، في حقيقته لم يكن بسبب وجود المقاومة فقط؛ وانما هناك سبب اساس: هو وجود البترول تحت اراضي هذه القبائل. فعملت الدولة القناة المائية الشهيرة وغيرت مجرى نهر الفرات: فأدت إلى جفاف الاهوار، واخرجت الدولة في الاخير القبائل العربية المسلمة من اراضهيم ومياههم، بحجة انهم من ايران والهند.
هذه الماساة التي دمرت الحياة في الجنوب، كما دمرت الحياة في شمال البلاد، كردستان، بطرق اخرى لا انسانية. ولا زالت مشاكل المياه العذبة في العراق مع الدولة والابطال الجدد، مثل عذاب ليس له حل، اي حزن هو العراق!.
ويجيء فنانون في المنفى، بجهدهم الجمالي، وكأنهم يصلحون الخطأ التاريخي الجسيم، ويختارون موضوعا عن الماء، وسموا المعرض في الجناح العراقي بعد (35) سنة: الماء الجريح.
في موضوعهم، والحساسية التي تعاملوا بها، شكلوا اختلافا واضحاً، وكذلك فعلت بلدان العالم، ما يسمى بالثالث، عن اعمال الفنانين الاوربيين الذين يعيشون وكأنّهم في معزل عن العالم، وما يحدث فيه من تغيرات جسام. الا انهم وضعوا في الكاتالوك، وبسبب تأثير الاحداث العظيمة، وما قدمه الجناح المصري المحترم، وضعوا صورة واحدة عن ساحة التحرير. وبما ان موضوعنا الان العراق سيكون التركيز حول ذلك.

مفاجأة كبرى
يعتبر بينالي فينيسيا واحد من اهم واقدم معارض الفن في العالم، اذ يعود تاريخه إلى اكثر من 100 عام. وهو مع بينالي كاسل في المانيا اهم اثنين في العالم. فالمبادرة العراقية هي مبادرة شجاعة وخيرة، قام بها الفنانون في المنفى. كان للجهد العظيم الذي بذله علي عساف (commissioner) هو المؤثر الاساسي على اقامة جناح العراق، وساعدته في الاتصلات الادارية السيدة ماري انجلا شروت (Mary Angela Schroth- curator). واجتمع جيلان من الفنانين، جيل من الفنانين المنفيين الاوائل، اعوام السبعسينات، وجيل المنفيين من الشباب، على تحقيق هذا المعرض المثير للكثير من التساؤلات والاحترام والاعجاب. ورغم الصعوبات المادية والادراية الجسيمة، استطاع الجناح ان يوجد، ويتحقق بتقيدم فن عراقي متطور، اسميه: فن عراقي تقدمي. وهذه الكلمة، تتناقض طبعا مع الفن الرجعي، لكني لا اقصد فيها المفهوم اليساسي فقط، وانما في شكلها الفني، بعدها الجمالي، الاستاتيكي، بعيدا عن الفنون الرسمية التافهة التي سادت في العراق ابان الفترة الديكتاتورية، وفي أكثر بلدان العالم العربي؛ فغابت روح التجربة والتمرد واضمحلت الثقافة والفنون.
ان كانت يقظة الانسان العربي، بدأت تأخذ حدتها الان، وترمي بالطغاة والمستبدين، الذين حكموا البلاد طويلا ndash; الحكومة الديكتاتورية في العراق حكمت اكثر من 35 سنة ndash; إلى ما يسمى مزبلة التاريخ. كان الفنان العراقي والانسان المثقف، قد سعوا سعيا حثيثا لتطوير انفسهم وملاكتهم الثقافية... دون توقف. وبجهد شخصي يحمدون عليه. وجاء معرض الجناح العراقي كمفاجأة كبرى لذلك التطور الحثيث. الفن، ابدا، لن يتطور الا مع الحرية. ومن دون هذه الشعلة المتقدة لن يوجد فن او فكر.

الفنانون المشاركون: أولا: علي عساف
من مواليد البصرة. عاش في المنفى منذ السبعينات، حيث ظهرت اعماله المركبة الاولى حول المفهوم (conceptual). وبعض أعماله التي عرضت في البينالي، ما زال فيها المنحى التركيبي المعقد في الشكل والفكرة التي تتبع فن المفهوم (conceptual art)، وكذلك التكوينات الفنية (installation). لكن لتعقد العمل المعروض، وكبر حجمه؛ فهو يحتاج إلى مجال اوسع من هذه المقالة. لذلك سأتحدث عن الفيديو، الذي عرضت له صورة في كتالوك البينالي العام. واسم العمل (narssis) والترجمة العربية لذلك تعني (حب الذات). هذا العمل، ومن النظرة الاولى إلى التضاد الشديد في الضوء والظلام، والذي يسمى (chiaroscuro)، يذكر مباشرة بفنان عصر النهضة كارافاجيو، الذي اثار بواقعيته الشديدة غضب الكنيسة. لكن بعض الأساقفة كانوا يشترون اعماله في الخفاء. ويبدو ان الفنان علي عساف، قد لبس قميصا ابيضا واسع الاردان، مع صديري، كلها، وكأنه اراد تذكيرنا بذلك الفنان. ومع صور الاهل ومناظر البلد، هناك مواد اخرى تطفو على الماء المتحرك بهدوء، حيث الفنان ينظر إلى سطحه بتمعن. وكالمتأمل تمر امامه كرة قدم، صور فوتوغرافية، أوراق، بلاستيك، كلها تمنح العمل، الذي تركزت فيه التفاصيل بشدة - باستخدام الاضاءة والحالة الدقيقة للصور، وكأن الفنان حاضر امامنا- نوع من الوقعية يمكن تسميتها بالواقعية الجديدة (nouveau realisme). وهذا الأسلوب ما زال حاضرا وبقوة في الفن الاوربي المعاصر، رغم ان الفنان يذكرنا بفنان قديم هو كارافاجيو، وحتى الاخير لم تكن شهرته مستندة على ابداعه في مسائل الضوء والظل فقط، وإنما ايضا لشدة واقعيته. كان يستخدم اناس الشارع حين يريد ان يرسم القديسين، ويرسمهم من دون هالات نورانية، أو أية بهرجة. وفي عمل الفنان علي عساف، لكونه يعيش ضمن المجتمع والثقافة الايطالية، وهو نشيط الحضور في ذلك، يكون تأثره مسألة طبيعية؛ لانها هي هكذا سنة الحياة. وهذا المنطق يسري على الفنانين الآخرين، تأثير البلدان التي يعيشون فيها واضح للعيان.
فحين نشاهد رؤية الفنان للاشياء البسيطة التي تمر امامه من صور اهله ومناظر البلد (العراق) كرة قدم، اوراق، بلاستيك، فهو ينظر إلى حياته كيف تجري كالماء الذي هو صلب الحياة.
وهذا السواد الشديد والبياض في صور الفيديو، ليس هو الا إيحاء بتناقض الحياة، ومأساتها، وهي واقع لا يطاق، لذلك يتحرك الفنان ببطء شديد، يصيب المشاهد بالصدمة والفرار. فعمل الفنان هنا: واقعي وصارم الواقعية. لأنّه لا يريد أن يتلاعب، صادق في مسعاه، فواقعه كفنان عراقي، هو واقع البلد الأم، واقع معتم، دموي، وحزين. وهنا يجيء المنفى الذي منح الفنان بعض الحرية، بأن يجلس مع ذاته، يتأمل، ويرى حياته تناسب كالماء.
وفي الأخير كل شيء يمضي، وهذه هي فلسفة العراقيين القدامى منذ عهد سومر الأولى: كل شيء يمضي أدراج الرياح.
عمل الفنان هنا هو البحث عن الذاكرة، الذاكرة الجمعية، فعنوانه يصلح إلى كل عراقي، وهذه مطالبة عسيرة من الفنان: أن يستفيق العراقي ويبحث عن ذاته وتاريخه. أمر لابد منه.... وسيحدث. وقبل الذهاب بالتحليل، عن أعمال الفنانين، أبعد، قد يكون من المفيد أن نفكر بأنّ الفن التشكيلي المعاصر لم يخلق لإراحة عقل الانسان. وحين نقبل فكرة مثل هذه، يكون في إمكاننا التقرّب وأيضا قبول الفن الحديث. والفنان العراقي الآخر الذي أود التوقف عنده، وتأمل عمله، هو الفنان (وليد سيتي).
ولد في دهوك ndash; العراق. يعيش في لندن حاليا. فنان حيوي ومتحرك، حقق سمعة محترمة، وجدارة فنية عالية. عرض الفنان عملين عن الماء في منطقة كردستان. الأول عن شلال مائي معروف اسمه: شلال كلي علي بيك في اربيل، والآخر عن نهر الزاب الكبير الذي يصبّ في نهر دجلة، منظور إليه من الأعلى. هذا النهر المهم الذي تدمر بسبب الجفاف، والتطور العمراني السريع، وثم النقمة القائمة في العراق، منذ زمن اكتشاف البترول اللعين: الحروب.
الفنان هنا يعيد بناء النهر بعين الطائر، من الجو؛ كنوع من الجغرافيا الجديدة وبشكل صوري (simulation). والعمل مكوّن من قماش بلاستيكي، مقطوع بشكل طولي وبالتساوي، الفتحات التي تركت في الوسط لتمثيل نهر الزاب، تشبه حركة أفعى ضخمة مشعّة باللون الفضي ndash; كأنها انعكاس الشمس على سطح الماء ndash; ومحاطة بحمرة قوية (cadmium red deep) ديب كاديميوم ريد؛ لاستنطاق الحياة إلى عنفوانها، بهذه الرمزية المختصرة ضمن لونين فقط. ومع حالة الحد الأدنى من المواد (minimal art) وصيغته التصميمية من مواد مصنّعة؛ إلاّ أنّه يذكّر وبشكل مباشر بأعمال فنون الأرض (Land art)؛ رغم أنّ الفنان لم ينقل احجارا أو طينا من ذاك النهر، لكنه ذكّر به، حين رسم خارطته بمخيلة حيوية، حديثة: من استخدام مواد مصنّعة تؤدي المفهوم الذي يريده.
مع ذلك فالعمل طويل يقارب تسعة امتار وارتفاع متران و60 سم واحتلّ المدخل كاملا عن جهة اليسار. في بساطته هو انذار مباشر عن الفاجعة، فكما الدمار حلّ بدجلة والفرات؛ لم تسلم الانهار الاخرى كذلك، الانهار التي تغذي الارض وتشدّ عصب الحياة.
أما العمل الثاني للفنان وليد سيتي هو عن مكان جميل في مخيلة العراقيين، واسم العمل (beauty spot) بقعة جميلة. هو عن شلال كلي علي بيك. العمل مكوّن من ورق مطبوع، وبحجم كبير، طول أربعة أمتار ونصف وعرض متران ونصف عن عملة الدينار العراقي، ورقة نقدية من خمسة آلاف دينار، تحمل صورة الشلال نفسه. مزقها الفنان او بالاحرى عمل فيها فتحة تشبه ورقة شجر ساقطة بسبب الجفاف، ليطل منها، في الوسط، عمل فيديو عن الشلال نفسه، شلال كلي علي بيك، في اربيل.
ويحكي الفنان قصة الفاجعة لهذا المصب المائي الجميل، مع عوامل الجفاف الذي أثر على المنطقة؛ فنضب شلال كلي علي بيك، مما اضطر الحكومة في كردستان إلى استدعاء شركة لبنانية، لتوجيه ماء إلى الشلال. احتاج ذلك إلى ضخ 250 كوبيك متر مربع من الماء كل ثانية. وهنا ظهرت قيمة هذه الورقة المالية، لكن هل من الممكن شراء الحياة بالنقود، لذاك الشلال الجميل، وإلى متى؟ ... يبدو ان القصة المضحكة كلها تراجيديا لا تطاق.
واصبحت اماكن الحلم الصغير، تلك الامكان الحيوية الصغيرة تضمحل وتذهب... طالها الخراب كما طال ابن البلد البسيط جسدا وروحا. هذا العمل المفهومي (conceptual art) وتأثيره البصري من تكبير العملة الورقية، والتي صدرت من حكومة سابقة يرينا تفاهة الانظمة التي احاقت العراق بدمار كلي. كانت الخمسة الاف دينار عراقي، ثروة ضخمة في اعوام الخمسينات والستينات وبداية السبعينات، بحيث يستطيع ان يبني بها الانسان بيتا فخما، ومع حروب القادسية والخليج هبط الدينار العراقي وتمزق الانسان وتمزقت الطبيعة.
ان العملين للفنان وليد سيتي لا تخاطب العراقي فقط، وانما الانسان الشرقي، الذي ينظر إلى العراق ضمن معرفة قاصرة وخطأ. كذلك العالم القوي وهو مشغول بتجميع الثروات، خصوصا التكالب على مصادر البترول.
والفنانان علي عساف ووليد سيتي يقدمان امامنا شهادة (statement) كفنانين يقيمان اعتبارات مهمة لما يحدث في العراق... وكلها مثل حركة جنح الفراشة في غابات اسيا وتأثيرها على الغابات الامازونية.
للمقالة جزء قادم

مصادر:
1.Illuninations
Catalogue. La Biennale di Venezia 2011
2.Mestopotamia. By Julian Reade
The British museum 2006
3.Mesopotamia. By Enrico Ascalone
University of California Press 2007

كاتب المقال فنان عراقي يعيش في بلجيكا