صالةُ المطالعة في مكتبة / ييرفيللا / هادئة، تنطوي على بضعة أشخاص منشغلين بقراءة الصحف، كنتُ بدأت توّاً بالجلوس وفتحتُ صحيفة/......./ لأقرأ صفحتها الثقافية / ولم أكدْ أبدأُ بالقراءة حتى مرّ الى جواري يحملُ رزمة من صحف الأيام الماضية، وهو يلهثُ، جلس على يساري لصقَ النافذة المدوّرة التي ترينا ما وراءها: السطح الفسيح المبلّط بالإسفلت ثمّ بضعة مبان مختلفة الألوان والطبقات، تتوسطها الساحةُ المكتظة بالسيارات، ثمّ سماء مكللة بالغيم تبعثُ نثيثاً من الثلج الناعم. بدءاً جلس بهدوء، كانت أوراقُ الصحيفة التي يقلبها تُحدِثُ خشخشة نسمعها جميعاً، بودّي لو ألتفتُ اليه وأراه، الا أني خجلتُ فقمعتُ فضولي، كما أنّه يجلس الى يساري، وحتى لو التفتُّ اليه فلن أتمكن من رؤيته، فعيني اليسرى منطفئة من أيام طفولتي لا تُسعفني على الرؤية، وعليّ إنْ اردتُ النظر اليه أنْ اُدير عيني السليمةَ نحوه بعد أن أستدير الى اليسار. وهذا فضولٌ غير مستحبّ في هذه البلاد. انشغلتُ بقراءتي، وما قرأتُ أغلبُه عن الربيع العربي الذي دخل في متاهات مُعقدة غامضة النتائج. وقبل أنْ انتهي من القراءة صعدتْ دمدمتُه وهديره، وسمعتُ صُراخه: أكاذيب، كلّهم يكذبون، لقد صار الكذبُ بضاعة تروّجُ لها الصحفُ.... لم يلتفتْ اليه أحدٌ كما لم يطلبْ أحدٌ منه أنْ يسكتَ. هنا لا يحتفلُ أحدٌ بآخر، فثمة موظفون يأتون أحياناً لإسكات بعض الشباب حين يخرجون عن طورهم ويُعكرّون راحة الآخرين. فيطلبون اليهم السكوت أو مغادرة المكتبة أو استدعاء الشرطة. لكنّ الرجلَ الذي توغل في سبعينيات عمره ما زال يهدرُ، بل وقف وبدأ الحوار. مع مَنْ؟ مع نفسه، فصار شخصين، واحداً يسألُ وواحداً، هو نفسُه، يسمعُ: وأنتَ لمَ تقرأ هذه الترهات؟ / اوه، ماذا أفعلُ، جئتُ أتزوّدُ بالمعرفة الا أنّ الصحيفة مليئةٌ بالسخافات. قبلاً كانت الصحفُ تُغني القارئ، على الرغم من أنّ قراءها معدودون، الآنَ، انظر حواليك ترَ عشرات الصحف والمجلات والكتب.. لقد تغيّر الزمن، لكن نحو الأردأ، تغيّر فيه كلُّ شيء، قبل عشرين سنة كنتُ أجيء المكتبة فلا أجدُ مكاناً أجلسُ فيه. وأنتظرُ أحداً يُغادرُ لأجلس في مكانه. واليوم أرى أمامي بضعة أشخاص، بعضُهم مثابرون على الزيارة اليومية مثل هذا الأجنبي الذي يجلسُ على يميني. أنّه في مثل سني لكنه ليس مثلي، فهو يُغادرُ بعد قليل ليجلس في المقهى من الحادية عشرة حتي الواحدة، وله صديقان وحسبُ: رجلٌ في مثل سنه يأتي الى المكتبة في الواحدة ولا أدري حتامَ يمكثُ، وامرأة ٌ تضارعه في السن، أغلبُ ألظنّ أنها زوجته، دوماً أراهما معاً وهو مُمسكٌ بيدها كما لو كان يخشى أنْ يخطفها أحدٌ منه.... ههههههه... ألا تسمعني، اني اتحدّثُ عنك / اوه.. أنتّ تتمادى، قال quot;ثانيه quot;: دعكَ منه، انه أمينٌ ومثابرٌ ورصين، فليس يؤذي أحداً، ولا أراه يستحقُ هذا الهجوم الذي تشنه عليه، ليت كلّ المُهاجرين مثله، أظنّ أنه مبدعٌ، فهو يغشى المكتبة من الصباح فيجلس في المكان نفسه ويكتب قرابة ساعة في دفتر أزرق، ثمّ يُغادرُ بهدوء الى المقهى، ينتظره صديقُه أو هو ينتظرُه..أحياناً أحسدهما على هذه الصداقة. واحسده على تلك المرأة التي تصاحبه في ممرّات السوق صبحاً ومساءّ. أحياناً أغشى ذات المقهى، أجلس عن كثب منه اُراقبه واحترمُ هدوءه وحواره، فهو يُحرّكُ يده كما لو كانت هي التي تتحدّثُ وتحاورُ وتطرحُ سؤالاتها. انّه دائم الإبتسام، لم أره أبداً برماً، مستاءً، منطوياً على ذاته، يمرّ الى جواره أصدقاؤه ومعارفُه فيبتسمُ لهم ويبنسمون، أنه يحترمُ ضيفه ينهض لاستقباله قبل أن يصل اليه، حتى حفيدته يستقبلها واقفاً قبل أن تصل اليه فيغمرها بالقبل،/ كيف عرفتَ أنها حفيدته؟ / مرّةً سألتها وهي تُغادره، قالت: هو جدي. سكتَ الرجلان: هو وهو، اثناء ذلك رنتْ عيونُ المُطالعين اليّ، وبخجل طويتُ الصحيفة وجلستُ انتظر فرصة لترك الصالة. بيدَ أنّ صاحبنا / الآخران / ما زال يتحاور، أسئلةٌ تُلقى وإجابات تردّ، حتى عراه المللُ وصمتَ، فطوى الصحيفة وضعها على الصحف الاُخرى وخرج قبلي، ألقى عليّ نظرة، بلْ ربتَ بمحبّة على كتفي، خفتُ أنْ ألحقَ به، سأتركه يُعيدُ الصحف الى مكانها ويخرج. وعدتُ أنا لمواصلة القراءة. ثُمّ عنّ وقتُ الإنصراف، فلا أريد أن ينتظرني صديقي أبو غسّان كثيراً في المقهى. تُرى أينَ مضى الذي انشطر الى اثنين.ربّما ذهب ليقتني قنينة نبيذ أو بضعة قنان من الجعة: ليذهبْ نصائح الطبيب الى الجحيم، قال مع نفسه، ولأمتِ اليوم بدلاً من الغد. انّه لا يفهم كيف اقاومُ الوقت من الظهيرة حتى صباح الغد وحيداً في شقتي اقابلُ الجدران، لا أنيسَ لديّ، قال مرّةً: ينبغي أن تحصل على كلب أو قطة، ففي وسع أيّ منهما أن يملآ الفراغ، تتحدّثُ اليهما، تبثّهما مشاعركَ واسرارك.هو لا يدري أنّي أكرهُ القطط والكلاب، فرائحتهما كريهة، ليس بوسعي أن اُلبّي مطالبهما، أنا عاجز عن تلبية مطلبي فكيف اُلبّي مطلبيهما، نعم ثمة أمرأة، خصّصتها الدولةُ لمساعدتي، تأتي كلّ يوم، تطبخ طعامي، وتغسلُ الأواني وتنظّفُ البيتَ، وتكوي ملابسي، وتسوّي فراشي، لكنها تّغادرني قبل الظهر، بل لاتجيء يومي السبت والأحد، فاضطرُ أنا الى قضاء حاجاتي في ذينك اليومين.......... أنا قارئٌ جيد، اُمضي بعض وقتي في القراءة، واحبّ مشاهدة الأفلام في التلفاز، وتلك التي تستهويني قليلة، وما يُعرضُ الآنَ لا يُلّبي حاجتي. افلامُ اليوم جلّها عنفٌ وقتلٌ وخراب، لذلك أكره العنف والسياسة والسياسيين، لكنّي اُحبّ النوم ُ. أحياناً أنام في السابعة مساءً، وأحياناً أنامُ في الرابعة فجراً، وأحلمُ كثيراً، الحُلم رحلة ٌ تمضي بي الى أصقاع مجهولة لم ترها عيناي، كما أنّ لديّ ولدين وخمسةَ أحفاد، كلهم منشغلون بحياتهم، مثلما أنا منطوٍ على حياتي، أحياناً يتصلان بي عبر هاتف البيت، ويسألان، ثمّ يُنهيان المكالمة، وخلال عام لم أرَهما، ومنذ شهرين لم يسألا عني، وزوجتي ما زالت في دار العجزة فلا أزورها أبداً، ولا تستطيعُ أنْ تسأل عني، لكنّ الولدين يتفقدانها بين حين وحين، وقد يطولُ الحين أشهراً / أنا أيضاً مثلك، قال quot;هوquot; الثاني: لكني اُمضي وقتاً ماتعاً حين أنام، أمسِ كنتُ إنساناً آخر فقد استغرقني حلمٌ لن أنسى تفصيلاته ما حييتُ، فوجدتُني في مكان غريب لا ينتمي الى أيّ مكان، ولا يتمنى أحدٌ أن يُغادره، كان على يساري صفٌّ من البيوت تتصلُ بمنحدر طويل، بين قاعدته وحيثُ اتمشى بستانٌ على شكل مربعات صغيرة مكتظة ٌ بنباتات سرخسية حمراء صفراء خضراء بيضاء وردية، لم ترَعيني مثلها لا في أروقة أحلامي ولا في اليقظة،quot; تشكيلquot; لا يُصدّقه عقلٌ، يقطعُه ممرٌّ للمشاة، وثمة شخصٌ كان يجري بمحاذاتي عليه، بيني وبينه مستطيلٌ تقطعُه مربعاتٌ زاهية. سألني: الى أين ستمضي / لا أدري، أخذني الطريقُ الى هنا على الرغم مني / أنتَ محظوظٌ، ردّ / وسألتُ: كيف تتزوّد هذه الكائناتُ الملوّنة على هذا المنحدرُ بالماء؟ / أجاب: انظر الى هذه الاُنابيب، تنطوي على آلاف من الثقوب، من خلالها يتدفقُ الماء ويرشّ الزرع / كان صادقاً، فالماءُ يندفع على شكل خيوط، آلاف الخيوط تنهمرُعلى النباتات الملونة. أحسستُ أني أتمشى جوار احدى لوحات الانطباعيين، تمنيتُ لو يمتدّ بي الطريق وعلى ميمنتى هذا العرسُ الوحشي الملوّن، حين وصلتُ الى نهايته غشيني الحزنُ، لكنّ مفاجأةً اخرى أنستني ما تمرأى لي. توقفتُ أمام آخر بيت على يساري، فجأة اشرأبَ نحوي وجه ٌ لن أنساه أبداً، وظننتُ أني دخلتُ الجنة. الهي؛؛ ما أبهاها وما أجمل هذه المخلوقة، قفزتْ فوق السياج الواطيء تجاهي، فتاة ٌ في العشرين، عيناها بلون زهرة النرجس، والشعرُ كثٌّ سبلٌ سنبلي، والشفتان جمرتان، والوجهُ المدوّر يعلو عنقاً بلون الرخام، طولها فارع، ولم أكد أصل الى باب بيتها حتى طوقتني بكلتا يديها، وضمّتٍني اليها، ووجدتُ شفتي تنطبقان على حُلمة نهدها الأيسر. عدتُ طفلاً أرضع من ثدي اُمّي. الهي... ماهذه النعمة.. والمصادفة؟ / سألَ (هو) الثاني: وأين مكاني أنا؟ / كنتُ أحلمُ وحسبُ، وتركتُك في أتون اليقظة / اللعنةُعليك، تدّخرني للمتاعب ولمنغصات الحياة، وتتركني احترق بلظاها، بينما تنعمُ بآلاء هذه الدنيا / ولم يدعني أن اُكملَ بقية ذلك الحُلم، ولا أدري أين صرتُ وأين صار ذلك الملاك العسجدي..... ذا أنا خارج الجنة التي آوتني لحظاتٍ لكنها كانت ساخنة ً نابضة حيّة ً، فما فتئتْ رائحة ُ جسدها وشعرها وثوبها أحملها معي. أما حُلمتها فقد تركتْها في فمي ما زلتُ اُحرّكها بلساني مثل قطعة سكر مرنة.

...........................
يعودُ / هو وهو / الى بيته، وأعودُ أيضاً الى بيتنا برفقة زوجتي أتأبطُ ذراعها خشيةَ أن تنزلق أقدامُنا، فبقايا المطر الهامي ليلاً تجمدت بفعل انخفاض الحرارة الى ما دون الصفر، وغدا اسفلتُ الطريق أشبهَ بقطعة زجاج مطلية بالزيت.
وبصعوبة وصلنا الى ملاذنا. وما أن احتوانا بابُ المبنى حتى رأيته ينتظرُ المصعد. اذن هو يسكنُ في ذات العمارة التي نسكن فيها. وبخجلٍ سلّمتُ عليه، هزّ رأسه بمحبّة، أنا ضغطتُ على رقم 1، بينما ضغط على رقم 8.... تركنا المصعد في الطبقة الاُولى وصعد به المصعدُ الى الطبقة الثامنة.........