غلاف الكتاب

د. خالد السلطاني: يستحضر كثر من العراقيين، ولاسيما الذين يقيمون في خارج الوطن، quot;اميجquot; بلدهم من خلال عناوين متعددة، وبوسائل متنوعة تبعاً لاهتماماتهم الشخصية والمهنية. لكن ما يوحد بواعث ذلك الاستحضار، توقهم نحو التمسك بذلك quot;الاميجquot; وجعله حاضرا دوماً في الخطاب. ثمة خوف (هل اقول quot;رعبquot;؟!) ممزوج بالحسرة، يراود كثر منهم، بأن بلدهم quot;المحبوبquot;، بدا وكأنه يختفي عن المشهد، والاهم، يتوارى عن ذاكرتهم، الذاكرة، التى حفظت صورته كوطن متماسك، مترع بالآمال العريضة المبشرة بالتقدم والازدهار. من هنا، يمكن تأويل نزعة ذلك quot;اللجوءquot; من الاستدعاءات التى سعى كثر من ممثلي الطبقة الوسطى عبرها، الى quot;ايقافquot; ذلك الاختفاء، وإبعاد مثل هذا التواري.
في هذا السياق، كتبت، مرة، فاطمة المحسن، في كتابها lt;تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديثgt; الصادر سنة 2010، (... فلطالما كان البحث في أرشيفات الثقافة العراقية مغرياً لمغتربة مثلي. ويوم وجدتني أكاد أكون منهمكة في مقارنات بين العراق وكل مكان أحل فيه، غدا

بيوت تقليدية في وسط المدينة، الحلة، 1987

الآدب والثقافة والتاريخ جزءاً من هذا الإحلال والإبدال. مهمة تشابه الوقوف أمام مرآة الزمن والبحث عن تلك التضاعيف التى تخفي الباب المفضي إلي طريق العودة. ) (ص. 7). اما صديقي الشاعر علي عبدلامير فيستذكر وطنه عبر quot;اشيائهquot; التى يستدل بها عن صورته، فيكتب في قصيدته lt;كان هناك ورد في الجوارgt; من مجموعته الشعرية، lt;بلاد تتوارىgt; الصادرة في 2005:
quot;........
كانت هناك لذةٌ،/ وإن كانت القفزَ بين الفخاخ. / كانت هناك مدينة. / كان هناك وردٌ يزهر على أيدينا. / الآن، لا وردَ في الجوار، / لايدَ امرأةٍ ترقً، ولا غدَ يبتسمُquot;!.
عندما قابلت احد quot;طلابيquot; السابقين، في عمان بالاردن، في نهاية التسعينات، هو الذي تغـّرب قسراً عن العراق ما يقارب عقدين، انبأني بان جُلّ وقته الحرّ يقضيه في استذكار بلده، من خلال رسم quot;فضاءاتquot; غرف quot;بيتهمquot; في حيّ lt;الوزيريةgt; ببغداد، حيث ولد هناك وترعرع. ويجد في quot;السلوىquot; المحببة لديه في اعادة رسم quot;مساقطquot; الدار، متعة، تغنيه عن quot;جزعquot; النسيان، الذي قد يداهمه يوما ما، فيفقد صورة مخططات quot;مسكنهquot;، وينسى بلده!.

بيوت تقليدية ، الكاظمية، بغداد، 1979

شئ من هذا القبيل (إضافة الى أشياء آخرى)، يمكن ان يكون باعث صدور كتاب quot;عراقـيquot; (2010)، الذي ألفه الصديق والزميل د. إحسان فتحي- المعمار العراقي المعروف، والإكاديمي، والخبير في شؤون الحفاظ المعماري، و.. المصور الفوتوغرافي. انه كتاب هام (سنأتي، بعد قليل، على ذكر أهميته)، لكنه، ايضا، كتاب مميز. وتميزه ليس فقط ينبع من طبيعة موضوعه ومحتواه، وانما بقطعه غير العادي (تقدر ابعاد الكتاب بـ 24times;34 سم)، وبعدد صفحاته 512 صفحة، والتى جلها ملونة. وبطباعته النظيفة والانيقة معاً، التى تكفلت بها quot;دار الاديبquot; بعمان، والتى يتولى الاشراف عليها الفنان العراقي هيثم فتح الله. والاخيرة، اعتبرها وارثة لـتقاليد quot;دار الاديب البغداديةquot; التى اسسها quot;فتح الله عزيزةquot; (والد هيثم) ببغداد، كمؤسسة طباعية فنية متقنة. وهي احدى ثلاث مطابع عالية الفنية، يعرف كثر، والشئ بالشئ يذكر، بان بغداد ضمتها، في حينها، وهي: مطبعة ثنيان، ومؤسسة رمزي، ودار الاديب البغدادية. وجميعها ورثت هي الآخرى أعراف وتقاليد مطبعة quot;الرابطةquot; التى اسسها المتنور العراقي quot;عبد الفتاح ابراهيمquot;. ولئن تحدثت باسهاب، نوعاً ما، عن هذا الموضوع، فلإنه انني، اثق وأُصدّق مقولة صديقي الفنان quot;ناظم رمزيquot;، من إن احدى معايير الحكم على تقدم بلد ، اي بلد، يكمن في وجود مطابع فنية فيه. وعلينا، اذاً، تقصي عدد المطابع الفنية الحالية في بلدنا، في حالة رغبتنا لمعرفة درجة تقدمه!. لكن ذلك ،بالطبع، موضوع آخر!.

باب الشيخ، بغداد، 1987

يحتوي كتاب quot;عراقـيquot; او بالاحرى rdquo;My Iraqrdquo;، (فالنص مكتوب باللغة الانكليزية تحديداً)، والذي اضاف مؤلفه الى عنوانه الرئيس، عنواناً جانبياً quot;سيرة ذاتية فوتوغرافية.. وأكثرquot;؛ يحتوي على نصوص كتابية، مع مجموعة صور مختارة من مناطق العراق كافة. يتعاطي النص مع quot;محطاتquot; هامة مستقاة من سيرة حياة كاتبها. وهي محطات تتماثل مع مصائر سير حياة كثر من مجايليه من مهنييّ العراق ومثقفيه : ذكريات الطفولة والمراهقة في أمكنة معينة، ثم السفر الى الخارج للدراسة، والرجوع الى الوطن، بمهنة جديدة، و... عيون جديدة, وبعدها التوظيف، ثم السفر مرة اخرى للخارج لاكمال الدراسة العليا ، والرجوع ثانية الى البلد الام، وممارسة الاختصاص في المؤسسات الرسمية وخارجها ، ثم... الهجرة خارج العراق!. لكن إحسان فتحي يضيف الى كل ذلك عناوين آخرى في quot;سرديتهquot; النصية، تعكس اهتماماته المتنوعة مثل: quot;مع المصورين الفوتوغرافيين العالميينquot; و quot;مواجهة قريبة مع الموتquot;، وبها يتحدث الكاتب عن احداث دراماتيكية عاشها في ازمنة وبمواقع متنوعة، آخرها كانت quot;مغامرتهquot; الجوية في تصوير مناطق الفرات الغربية، عندما تعطل، فجأة، محرك الطائرة السمتية (الهليكوبتر) التى كان يستقلها لأغراض التصوير، وقرر قائد الطائرة الهبوط بها وبركابها اضطراريا في عرض الصحراء؛ ناجيا، بهذا، (مصورنا) من الموت باعجوبة!.
يسرد quot;إحسانquot; في نصه فصلا يشير به، الى حبه واهتمامه في نشر الثقافة المعمارية بعامة وتجلياتها الحفاظية بشكل خاص، والذي أُعتبر هو،

مشحوف في الاهوار، 1979

احد مختصيها البارعين، بل وعدّ مؤسسا لموضوعها في اروقة الدرس الاكاديمي وخارجه. ويدعو هذا الفصل quot; شرائح ملونة، ومحاضرات و.. حروبquot; يعقبه فصل آخر خاص بـ quot;الهجرة الى الاردنquot; ويختم نصه بفصل سماه quot; حرب رقمية، فوتوغراف رقميquot;. اما أمكنة مواقع صوره، فهي تغطي تقربيا مدن العراق كافة، فهي تشمل بالاضافة الى بغداد بالطبع، الموصل، وعقرة وعمادية واربيل وسليمانية وكركوك وقرية quot;كومبتلرquot; (وهي قرية من أعمال كركوك، ادعوها lt;قرنة العراقgt; تشبهاً، بـ quot;قرنة الصعيدquot; بمصر، والتى قام على تصميمها، في منتصف الاربعينات، المعمار المصري المعروف quot;حسن فتحيquot;، وحظيت، بعدئذٍ، على شهرة واسعة اقليمياً وعالمياً)؛ وشيخ عدي، ودير مار متي، وسامراء والدور وآلوس، وعنه، وراوه، وحديثة وهيت وبعقوبة والحلة والكفل وكربلاء والكوفة والنجف والعمارة وواسط (الكوت)، ومنطقة الاهوار، والبصرة، واخيرا الزبير. اي، كل ما يمثل العراق تقريباً، او يتمثل به من مناطق جغرافية وامكنة تاريخية. وينهي، أخيرا، المؤلف كتابه بقائمة تتناول السيرة الذاتية للمصوريين العراقيين وغير العراقين الذين تواجدوا فيه بعد 2003، ويختتمه بقائمة آخرى خاصة بالمصادر الفوتوغرافية المعنية بالعراق، وهي quot;بيبلوغرافياquot; اضافة الى أهميتها، فانها فريدة من نوعها، تظهر إهتمام المؤلف وحبه المهني للشأن التوثيقي الذي عُرف عنه دوماَ.

تعكس الصور الملتقطة، المنشورة في كتاب quot;عراقـيquot; جانبين اساسيين، يجد quot;إحسانquot; بهما تمثيلا لما يود ان يقدم لنا رؤيته عن بلده. أنهما، باختصار: quot;الناسquot; و quot;العمارةquot;. صحيح ثمة صور بانورامية، يمكن ان نجدها في ثنايا صفحات الكتاب، لكن عددها، يظل متواضعاً مقارنة بالحدثين الاساسيين. يعرف quot;إحسانquot; كيف quot;يظهرquot; شخوصه الملتقطيين. ففي حين يبدو قسم منهم منهمك في عمله، الذي، غالباً، ما يكون

احسان فتحي، عمان، كانون الاول 2011، تصوير: خ. سلطاني

يدوياً؛ أثناء حركة تثبيت quot;اللحظةquot;؛ نرى قسماً آخرا مستمتعاً في جلساتهم الجماعية عند المقاهي الشعبية، او في الشوارع المكتظة بهم. لكن quot;مصورناquot; تستهويه، بشكل خاص، نوعيات سحن quot;ابطالهquot; المتصوريين وملامحهم البارزة. فيلجأ، هنا، الى اللقطات القريبة، او ما يعرف بـ Close-upلتأكيد خصوصية هذه الاوجه، وتعبيراتها المميزة. ثمة quot;بورتريهاتquot; عديدة لناس العراق، نجدها مسجلة في العديد من الصور المنشورة بالكتاب. انها تبيّن تنوع مواطني هذا البلد العريق، وتشير الى تعدد اصولهم وإثنياتهم. ثمة تعاطف ممزوج بالاحترام يبديه أحسان الى شخوصه مسجلا هيئاتهم المعبرة في صور الكتاب المنشورة. ويوحي المصور لنا، في اللقطتين المنشورتين في صفحة رقم 159، الى مفهوم تداخل الازمنة، وتأكيد نزعة الحفاظ على التقاليد، عبر تشابه اسلوب غطاء الرأس لرجل بغدادي معاصر، مع quot;جراويةquot; امير سومري من لكش ،عاش في ربوع هذه الارض، في القرون الاولى من الالف الثالث قبل الميلاد!.
ثمة اهتمام خاص يوليه quot;إحسانquot; في مجموعته الفوتوغرافية لموضوع تصوير الاطفال، هم الذين quot;يعترضواquot; طريقه، وهو في مهام تصويرية بانحاء عديدة من العراق. فيسجل عبر لقطاته المميزة، والمدروسة تكوينياً بعناية، لهوهم وضحكاتهم وبكائهم وفضولهم، وهم يواجهون المصور بملامح وجوههم المستثارة، وعيونهم البريئة. وبما إن الكتاب هو، ايضاً، سيرة ذاتية فوتوغرافية للكاتب، مثلما يشير عنوانه الفرعي، فقد حفلت محتوياته على لقطات عديدة للمؤلف، تجمعه مع مثقفي العراق

ضريح، شيخ عديّ، 1980

والعرب والاجانب. كما أبانت الصور المنشورة طبيعة نشاط المؤلف المختلفة في امكنة وازمنة متباينة عكست ثراء ممارساته المهنية والشخصية المتنوعة وأهميتها.

لا تفتأ مجموعة الصور المنشورة في الكتاب، تذكر المتلقي بقيمة العمارة الملتقطة ونوعيتها، هي التى تحيطنا من كل جانب. انها تحسسنا ايضا بما يود ان يقوله المصور لنا. وما يقوله هو ، في الحقيقة، امر رائع وجميل، لكنه ايضاً quot;جديدquot;، أو هكذا تبدو العمارة، quot;العمارة الشعبيةquot; تحديدا،ً في عدسة إحسان فتحي. فتغدو نماذج البيئة المبنية، ولاسيما في تفاصيلها الجزئية، مدخلا ووسيلة لاكتشاف ما يحيط بنا من روائع. وهو كاستاذ للعمارة، ومحب للتراث المعماري، يشركنا في quot;درسهquot; المعماري، وquot;يورطناquot; في ولعه التراثي، لرؤية جماليات العمارة الشعبية quot;الفرناكالرquot; (بحسب وصفه لها)، وتفاصيلها المتقنة والذكية.. والبهيجة ايضاً. انه يجعلنا أن نكتشف معه الجليل في المألوف، والمدهش في العادي، والاستثنائي في الشائع!. ففي اللقطات المنشورة، تمثيلا لا حصرا، في الصفحات 82، و148، و106، و148، و175، و180، و186-187، و212،و224-225، و238، و269، و273، و280، و308، و469، و474، و499، وغيرها من اللقطات القريبة والتفصيلية، ينشد إحسان الى تبيان ثراء المشهد المعماري المحلي وغناه، والذي به يتمثل العراق المتنوع والمختلف والمتآخي. وحتى في quot;تفصيلةquot; صورة الغلاف الداخلي، ينزع إحسان فتحي، الى تذكيرنا، رمزياً، بالبلد الذي يتحدث عنه، فمن خلال لقطة قريبة الى quot;نخلتهquot; المميزة، وquot;بلبلهquot; البغدادي الشجي، quot;نحزرquot; ،نحن المتلقين، ونخمن عن اية بقعة مباركة يدور الحديث!.

شخص من اربيل، 2009

وتظل، فكرة نشر كتاب quot;عراقـيquot; ومحتواه، بالصيغة التى اقترحها لنا المعمار الدكتور أحسان فتحي، عملا ثقافيا ووطنياً في آن، خصوصا في الفترة الراهنة، حيث يمر البلد المكرس له هذا الكتاب، بمخاض انتقالي عسير، يزيده عسرا طبيعة الظروف المحيطة، القاسية والمتشابكة، ونوعية ذهنيّة طبقته السياسية التى لا تريد ان تعترف بفشلها الذريع في ادارة شؤون الوطن.
ان صور الكتاب البهية، المتنوعة والمتعددة، والتى بعضها بات تاريخياً، تنشد الى تثبيت quot;صورةquot; بلد عريق وذي شأن. وهي بالتالي تستحث quot;اميجهquot; المخزون في الذاكرة، ليصارع نزعاتquot;التفتيتquot; والتهميش التى انهالت عليه من كل حدب وصوب. كما لو إن نداءاً واضحاً وعالياً تطلقه صور كتاب quot;عراقـيquot;. كما لو إن هذا النداء يلمح الى قوة تأثير هذا الفن الرفيع. كما لو أن الصور المنشورة قادرة على منحنا متعة لا تعوض، يُستحضر بها عراق إحسان فتحي، الذي هو، في الواقع، عراقـ.. quot;ـناquot; جميعاً.

د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة/ الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون