القاهرة: يواصل الكاتب الروائي إبراهيم عبد المجيد في روايته quot;الإسكندريّة في غيمةquot; الصادرة أخيرا عن دار الشروق، استكمال رصد وتسجيل رؤيته للتحولات التي أصابت مدينة الإسكندرية، التي بدأها في روايته السابقتين quot;لا أحد ينام في الإسكندريةquot; والتي تناولت فترة الحرب العالمية الثانية، ثم quot;طيور العنبرquot; التي تناولت فترة الخمسينيات والسيتينيات، وتجئ الرواية الأخير لترصد الفترة الأخطر والتي تأسس عليها الواقع الحالي ليس في الإسكندرية وحدها ولكن في مصر كلها من سيطرة جماعات اليمين المتطرف عليها، فمن خلال حيوات مجموعة من طلاب وطالبات الجامعة بالإسكندرية منهم الشاعر والمثقف والقاص والمناضل نعيش تفاصيل الهجمة الشرسة لجماعات التطرف الديني على المكان والإنسان، وتآمر الدولة وتعاونها معها لتصفية ما بقي من كوزموبوليتانية المدينة، حتى لتنتهي الرواية بمحاولة الطالبة كريمان قتل زوج أمها التي يتحرش بها طوال الوقت، والذي أطلق لحيته وألبس أمها النقاب وطالبها بالحجاب، حاول اغتصابها فحاولت قتله وقتل نفسها، لكنه لم يمت ولا هي كذلك، ليبقى الصراع مفتوحا بين اليمين المتطرف والليبرالية.

** بداية عندما كتبت رواية quot;لا أحد ينام في الإسكندريّةquot; هل كان بخطتك الاستمرار برصد متغيرات وتحولات جوهرية في البنية المكانية والإنسانية الإسكندرانية، لتشكل مع quot;طيور العنبرquot;، وquot;الإسكندريّة في غيمةquot; الصادرة أخيرا ثلاثية؟
** الحقيقة لا، عندما كتبت quot;لا أحد ينام بالإسكندريةquot; لم تكن الرواية الأولى عن الإسكندرية بالنسبة لي، كتب quot;بيت الياسمينquot; والصياد واليمامquot;، quot;العشق والدمquot; وقصص قصيرة كثيرة، quot;لا أحد ينام بالإسكندريةquot; كانت حلما بالنسبة لي منذ سن مبكرة جدا نتيجة حكايات والدي ووالدتي عن الحرب العالمية الثانية، حتى جاء اليوم وكتبتها، كنت عام 1990 قد اصطحبت أسرتي إلى مرسى مطروح وأثناء الطريق أخذنا استراحة في العلمين، فأخذت أطفالي لأعرفهم على أماكن الحرب ومقابر الكومنولث واليونانية وغيرها، فبدأ الحلم في طلب الرغبة في الظهور والتحقق فكتبتها وليس في نيتي أبدا أن تكون بداية ثلاثية، الرواية استدعت أخرىquot;طيور العنبرquot;، لأنني اكتشفت عند كتابة quot;لا أحد ينام بالإسكندريةquot; ورجوعي للصحف والمجلات وأماكن الحرب ومواقع القتال في العلمين والصحراء الغربية والضبعة والسلوم ومرسى مطروح وإجراء دراسات وبحوث حول تلك الفترة، اكتشفت أن عالم الإسكندرية في تلك الفترة على الرغم من الحرب والموت كان أجمل مما نحن فيه، وأن الإسكندرية كانت عاصمة العالم فعلا وليس مجرد كلام، لقد رأيت الإسكندرية الكوزموبوليتانية في طفولتي في الخمسينيات وشبابي في الستينيات، ورأيتها وهي تنهار، ومن هنا بدأت أشعر أن هناك حاجة لكتابة جزء ثان، ولكن للمدينة في مرحلة أخرى، المرحلة التي خرج فيها الأجانب وتحولت لمدينة مصرية، ولم يكن هذا عيبا، لكن العيب الذي جرى في المدينة وفي مصر كلها، إلا أنه مع التخلص من الأجانب لأسباب سياسية منها الوجيه كالاحتلال، ومنها وجاهته بين بين كالجانب الاقتصادي، لأن التوجه نحو الاشتراكية كان حلم معظم شعوب العالم الثالث التي بدأت في التحرر، تخلصنا من الثقافة الإنسانية بحجة أنها ثقافة استعمارية، يعني في المدارس على سبيل المثال بعد ثورة 23 يوليو لغوا تدريس الانجليزية في المرحلة الابتدائية ليصبح بدءا من المرحلة الإعدادية، ومع الزمن الذي وصلنا إليه أصبح تدريس اللغات لا يساوي شيئا، فمدرسي الإنجليزية الآن في المدارس الحكومية والكثير من المدارس الخاصة لا تعرفون كيفية تدريسها لأنهم لا يملكونها، وتخلصوا أيضا من أمور كثيرة كالنظام في الشوارع والنظافة والعمارة العالمية في البناء كالإيطالية والبلجيكية وغيرها، تخلصوا من اللبيرالية في الثقافة والحريات الإنسانية، هذا كله ليس إنتاجا استعماريا، هذا إنتاج إنساني.
ما جعلني أفكر في مشروع رواية quot;طيور العنبرquot; هو المدينة التي تتحول لمدينة مصرية، وليس في هذا عيبا، ولكن العيب هو التخلص من الحالة الإنسانية، ثم كنت شاهدا على كيفية فقد المدينة الروح المصرية لتتحول إلى مدينة وهابية، أفكار وهابية، أفكار سلفية ضد أي نوع من الحريات، وتعاون بين أصحاب هذه الأفكار الذين جاءوا بأموال من السعودية والخليج والحكام العسكر من محافظين ورؤساء أحياء على إفساد شكل المدينة، وردم بحيرة مريوط وإقامة الأبراج العالية في شوارع لا يتجاوز عرضها أربعة أمتار، وإقامة العشوائيات، كل ذلك جرى في مصر كلها، ولكن كوني معني بالإسكندرية كتبتها، فاستدعت quot;طيور العنبرquot; الجزء الثالث quot;الإسكندرية في غيمةquot; الذي يمثل انحدار المدينة ومحاولة الإمساك بآخر الخيوط المصرية والعالمية الإنسانية.
كتبت معظمها قبل ثورة الـ 25 من يناير لكني تركتها عشرة أشهر حيث انشغلت بالثورة وتطورات الأحداث والمظاهرات والكتابة عنها وأصدرت كتابي quot;أيام التحريرquot;، وعدت إليها في أكتوبر 2011 أكملتها حيث لم يكن متبقيا منها إلا ثلاثة أشهر.
الثورة أعطيتني نوعا من الإحساس بالتفاؤل، أن ما تمر به الإسكندرية خاصة ومصر عامة غيمة، وليس أمرا سيستمر إلى الأبد، حيث ظهر المجتمع المدني وأثبت الشباب الجديد أنه خارج نطاق الحسابات المختلفة، وقد رأينا موقف الشباب السكندري ضد الجماعات التي تسمي نفسها سلفية وغيرها، من هنا جاء عنوان الرواية quot;الإسكندرية في غيمةquot; باعتبار أن الأمر غيمة وحتعدي، وهكذا تكون المدينة مراحلها الكبرى متجسدة في الروايات الثلاثة.
طبعا هي ثلاثية ليست على النمط التقليدي العادي، إنها مدينة في ثلاث مراحل تاريخية مهمة.
** لكنك التزمت بالتقنيات؟
** طبعا التزمت بالشكل الفني لكي يكون هناك نوع من السيمترية أو نوع التناسخ والوحدة في الكتابة، لكن في النهاية شخصيات مختلفة ما عدا شخصية أو شخصيتين من كل رواية تتكرر.
** لماذا اخترت الشخصية المحورية quot;نادرquot; شاعرا؟
** أولا لا أقصد ذلك، لكني اكتشفت أثناء الكتابة أنه هو الأكثر رقة وإحساسا بالآلام وما يجري حولي.
** حتى المسرحي حسن حافظ لم يلق منك نفس الاهتمام؟
** حسن شخصية فنية يكتب المسرح والقصة، لكن فيه نوع من العبثية، الأمور لديه متساوية، وهذا جانب من البشر جميل وليس سيئا، لكن لا يزيد عن ابتسامة ساخرة، لديه حالة رضا وسخط قليل.
** المثقف عيسى سلماوي طوال الرواية محاضرا هادئا للمجموعة الأبطال، ليس له موقف، لكن في مشهد النهاية عندما تسقط كريمان وتدخل المستشفي يتحول لشخص آخر صاحب موقف وقضية دون أن يكون هناك ما يبرر ذلك؟
** هو ليس له ما يبرره بشكل واضح، ولكن ما يبرره أنه سيتراجع عنه لكن بعد انتهاء الرواية، هو كالعادة يقدم سوف يتراجع، فهذه اللحظة كانت من لحظات التجلي الإنساني في شكله الإيجابي، لكن كالعادة هو سيختفي، متى؟ الرواية انتهت. هو وجد في المشكلة لحظة اكتشاف أن تلك الفتاة الغارقة في دمها في الشارع هي كريمان، حالة إنسانية صعبة أقدمت على الانتحار بعد أن ظنت أنها قتلت زوج أمها السلفي الذي يسعى لاغتصابها، ممكن أن تحدث طفرة لدى الإنسان، لكن الله أعلم إن كان سيستمر بها أم لا؟.
** الجنس في الرواية يعمل على أكثر من محور، محور بنات الليل ممثلا في غادة وروايح، ومحور الحب ممثلا في علاقة نادر ويارا، وعلاقة حسن وكريمان، ومحور التحرش / الجريمة في محاولات زوج الأم الاعتداء على كريمان، ما المفهوم التي تتمحور حوله رؤيتك للجنس في الرواية؟
** هذه تجليات الجنس عموما، لكنه في ذلك الوقت، كان أمر الجنس عاديا، يعني ممارسة الحب والملاهي وبنات الليل كلها كانت أمور عادية، هي مرحلة تاريخية، كانت معظم بنات الهوى في حالة ضياع واضطرار لهذا العمل نتيجة أنهن كن مهجرات من مدن القناة، لذا تستشعر أن هناك نوعا من التعاطف معهن، فغادة وروايح شخصيتين إنسانيتين جميلتين تعملان في الملاهي الليلية، لا تملكان شيئا لحياتهما، هما مفعول بهما طوال الوقت، وبالنهاية يصيبهما التغيير الذي يصيب المدينة عندما تباع الملاهي وتتحول لعمارات فيتوقف عملهن، فيقررن فتح محل ملابس للمحجبات.
** لكنك اشتغلت على محور الجنس كجزء من التركيبة السياسية للبلد؟
** الجانب الآخر من الجنس بين نادر ويارا وحسن وكريمان، كان حبا، لذا عندما يحدث حوار بين يارا وكريمان فيما يجري معهما حينما تلقي كل منهما حبيبها، نرى الحس الجمالي للحب وليس فعل الجنس، حالة الحب، يحولان فعل الجنس إلى فعل حب ليصلا لمنطقة برزخية بين السماء والأرض، منطقة أشيه بالصوفية، لكن بالنسبة لبنات الليل فإن الجنس مجرد واجب يؤدينه، ومن يمارس معهما الجنس من المجموعة هو بشر الذي لا يحب، يمارسه كنوع من الزهق، وهذه كلها حالات إنسانية ولم أكن حريصا أن يكون للجنس أي معنى أو آخر سوى أنه تصرفات عادية جدا للبشر، ليس موضوعا أساسيا.
** لكنه جاء في سياق الرواية كجزء من التغيير الذي أصاب المدينة؟
** طبعا لأن تحرش زوج الأم في حالة كريمان بحجة أنها سافرة وهو متدين، أمر وقح جدا لأنه كاذب، يفضح الكذب الذي صنعه أمثاله وجعلوا منه شعارا.

** هل هذه الهجمة المتطرفة وما ارتكبته في الإسكندرية في تلك الفترة من السبعينيات حقيقية وما المبرر؟
** في مصر كلها وليس الإسكندرية وحدها، مصر كلها تغيرت، والنتيجة تتراءى أمامنا الآن، من صنع ثورة 25 يناير شباب قادم من عالم الحداثة والعولمة والإنسانية في أرقى درجاتها، من أجل الحرية والكرامة والحرية، ومن أخذ الثورة واختطفها أناس لا تنتمي أفكارهم إلى هذا الزمن، كانوا هناك ينتظرون الانقضاض وقد انقضوا بالفعل على الثورة.
** عندما قيام ثورة 25 يناير انفصلت عن الرواية ثم عدت إليها بعد عشرة أشهر فهل عند العودة عمقت هذا الجانب الخاص باليمين المتطرف؟
** لا.. أنا لي طريقة في الكتابة، أنا من الكتاب الذين هم عندما يكتبون عن التاريخ مجهودهم الرئيسي أن يأخذوك إلى هناك، لا أحب عمل إسقاطات سياسية مباشرة على الحاضر، لأن هذا كلام مؤقت وعابر، لكن أنا أحب أن آخذك إلى هناك، أصور روح الزمان والمكان وما يحدث فيهما من تجليات روحية، يعني التجليات المادية السيئة في الرواية ممثلة في تغيير المكان، هو يصنع ردود أفعال على الروح الإنساني، وعندما عنونت الرواية بـ quot;الإسكندرية في غيمةquot; كنت وصلت لحالة يأس وثورة يناير أعطتني حالة أمل بالمعنى العام لا أكثر ولا أقل، وفي نفس الوقت البطل نادر يحب ماياكوفيسكي وقصيدته الشهيرة quot;غيمة في بنطلونquot;، وهنا اعتبر الحالة كلها غيمة على الإسكندرية وستزول.
لا أحب عمل إسقاطات على الحاضر، لأنني أعتبر ذلك من السياسة المباشرة وأنا ضدها فنيا.

** هل من شخصيات الرواية شخصيات حقيقية؟
** أكثرهم شخصيات حقيقية عاصرتها وكانوا أصدقاء لي.
** هل شخصية خليل الشخصية القيادية في الحزب الشيوعي السري هو المناضل كمال خليل؟
** لا، وإذا كان ضروريا الكشف عن هذه الشخصية، هو اللقاء الأول لي في السبعينيات مع خليل كلفت، في بالإسكندرية، لم يته من دماغي هذا الإنسان النوبي الأسمر الوديع المناضل والمثقف الكبير، وظل معي طوال هذا السنوات، لم آت باسمه كاملا فقط quot;خليلquot;، لأن خليل كلفت روحه جميلة جدا، وهو ماركسي طوال عمره وعندما تتكلم معه تجده رومانسيا.
لقد استقيت الاسم فقط، والنوبي والسمار، لأن الحركة الشيوعية والحزب الشيوعي المصري الذي كنت أحد أعضائه، كان يضم قيادات نوبية كثيرة، منهم زكي مراد، ومبارك عبده فضل الذي كان مسئولا عني مباشرة ويرسل لي المنشورات إلى الإسكندرية.
** وماذا عن لقاء نادر مع فاروق عبد القادر بالأهرام وذهابهما إلى مقهى ريش ولقاء نجيب سرور وأمل دنقل وسليمان فياض؟
** هذا جانب برختي في الرواية، حيث أنقل دهشتي عندما وصلت للقاهرة، هذا حدث معي شخصيا، ليس كما ورد بالرواية بالضبط، لكني كنت مندهشا من تصرفاتهم مع بعضهم البعض، لقد كان أول لقاء بي معهم في عام 1971.