يتحكم انتاج النفط، الى حدود كثيرة، وتسويقه ايضا وتوظيفه وطريقة توزيع عوائده ؛ يتحكم في السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية في العراق المعاصر، وبهذا الاسلوب يكون النفط قد استحق تسمية المستبد، فالاستبداد النفطي بدأ بتصفية المصادر الاقتصادية الاخرى، مع انها قابلة على التطور والتطوير بدخول النفط مصدرا اضافيا ريعيا في الثروة، واستطاع ايضا ان يضفي على الساسة شعورا بالقوة الاضافية، التي يمثلها المال، وان يقلّص القدرة على الادارة الحصيفة للبلاد، كما انه سلب من المجتمع كثيرا من ديناميكيته في الانتاج ومساهمته في صنع الثروة القومية التي ترفع من حقيقة ما يمكن ان يرقى الى مستوى الكرامة والاحقية الفعلية في الثروة.

على هذا النحو تبدو صورة العراق المعاصر، اذا اختزلناه بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، في كتاب الدكتور سليم الوردي: quot;الاستبداد النفطي في العراق المعاصرquot; الذي يضم بين دفتيه افكارا برامجية وانتقادات مريرة بعقلانيتها، وإنْ ظهرت التهكمات والاشفاق هنا وهناك الا ان ذلك سيكون له اثر ايما اثر على القارئ الذي طال اندماجه بالوقائع الاجتماعية، وصار محتاجا الى الوخز الذي يذهب بعيدا من اجل ان يجعل الامل في الحل مامولا ان لم يكن قريبا.
تبدو المفارقة التاريخية المعاصرة - وهي ليست طويلة الامد بالقياس الى تاريخ وادي الرافدين ndash; واضحة في صفحات الكتاب (زهاء مائتي صفحة)، ولكن تركيز المفارقة ونتائجها الانتقالية القاسية جعلت من التاريخ المعاصر لهذا البلد مرجعا للانتكاسات السياسية والاقتصادية وللقيم والبنى الاجتماعية، وقد حاول الدكتور سليم الوردي ان يضع يده ndash;ووضعها فعلا في اغلب اقسام كتابه ndash; على الالية التي عملت على انتاج الاستبداد السلطوي واسرعت في تبني النفط من طرف الحاكمين باعتباره مصدرا للحل، كما انه المصدر المعول عليه في استمرار الاستبداد السياسي اولا، وفي النكوص، القيمي و الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، كما كان ndash; وهذا هو مربط الفرس ndash; عاملا بارزا على تهميش السياسة الوطنية الى درجة التبعية وعلى تقليص الدوافع نحو تنمية فكرة المواطنة وانجرار هذه الفكرة نحو نقاط عشوائية ومصلحية ضيقة، وايجاد تبريرات خائبة ولكنها متحمسة للاداء السياسي والاقتصادي والثقافي الذي لم ينجح بقياسات معتدلة. وللاسف فان هذا المصير في السياسة ووجهها الرسمي ndash; وهو الذي يصطبغ به العراق المعاصر بشكل عام ndash; كان قد مدّ اطنابه على البلاد بعد 2003، مع انه غير منقطع عن المراحل السابقة، فقد كان المستبدون، الذين جاءوا الى الحكم بالمؤامرات، قد سقطوا بالمؤامرات ايضا. كل هذا والمجتمع هو الذي يدفع الثمن ويتفرج على نفسه ويندب حظوظه العاثرة... وينتظر الانخراط في المشروع على نحو quot;ايجابيquot; كما لو ان الايجابية لاتعني سوى تلقائية ردود الفعل.
ان هذا الكتاب سيكون معدودا ضمن الاسهامات النادرة في التحليل الوطني، وعسى ان ياخذ مكانه في التوعية وفي الحث على البحث عن الحل العام، فالانتقاد الملموس لواقع ودور الطبقة المتوسطة في السياسة العراقية الرسمية وفي الحياة المدنية كان انتقادا نموذجيا يمكن الانتقال به الى مستويات ابعد من السياسة والاقتصاد، الى حيث الثقافة وآليات العمل الشعبي وكيفيات بناء المؤسسات الى التحري عن مقدمات الفشل الحكومي المتتابع وانعكاسه على المجتمع، وايضا الى مساهمة المجتمع بما فيه النخب والمجموعات والاحزاب، في ذلك الفشل، دون نسيان المقارنات والتداخلات الخارجية.