bull; الى وميض شماس

الحديث الذي سيرد لاحقا، والذي يختزله عنوان المقال، هو عن عمارة quot;مايكل غريفزquot; (1934) Michael Graves، المعمار الامريكي المعروف، ولكن ليس عن quot;غريفزquot; ما بعد الحداثي، هو الذي بمنجزه المميز والرائد، سيرسي مع اقرانه تيار مابعد الحداثة في الخطاب المعماري ومشهده، لاحقا، وسيصبح واحدا من اشهر معماريه. انه حديث عن عمارة quot;مايكلquot; الشاب وقتذاك، الحائز، قبل أجتراح عمارته تلك، بسنوات قليلة شهادة الماجستير بالعمارة من جامعة هارفارد (1959). نحن، اذاً، نتحدث عن مبناه (هل اقول رائعته التصميمية؟!)، quot;دارة هانسيلمانquot; (1967-71) Hanselmann، في فورت واين/ انديانا، الولايات المتحدة.
في خضم الاشكال والحجوم الغريبة، والهيئات غير العادية والمفرطة بضجيجها الفورماتي، التى تقدمها عمارة ما بعد الحداثة، يشعر بعض المتلقين (اشعر، أنا، شخصيا)، بتوق ممزوج بحنين شديد نحو الاشكال المعمارية الصافية والواضحة وحتى الهندسية. تلك الاشكال التى quot;تدربتquot; ذائقتنا على مشاهدتها طويلاً، وتقبلنا هيئآتها المنتظمة، وتماهينا مع فلسفتها التصميمية. اتكون تلك quot;نوستالجياquot; لإيام ماضية، حَفِلت بالتكوينات المعمارية الخالصة في هندستها ولونها الابيض النقي، الدال على نقاء وصفاء تلك التكوينات؟. بين فترة وآخرى، ارجع الى تلك العمارة: العمارة النقية وquot;المفهومةquot; والعاكسة بوضوح كاف قيمها التصميمية التى كنت واثقا من صدقيتها، وحتى منتميا لمنطلقاتها وquot;مبادئهاquot;! أود، اليوم، أن اثير إهتمام القراء الاعزاء، لمبنى ارى في عمارته ما اتوق ان اجد فيه، كل تلك الخصائص التى ذكرتها تواً. لا يعني هذا، بان تصاميم quot;غريفزquot; الآخرى لا تعجبني. ليس هذا مقصد ما اود ان اقوله. فتلك التصاميم المعمارية .. وغير المعمارية (ومايكل غريفز مشهود له في مثل هذا الجانب غير المعماري ايضاً)، ما برحت تثير اهتمام كثر (بضمنهم أنا، بالطبع)، لما تمثل من قيمة كبيرة وهامة في المنجز المعماري العالمي. هذا أمر أكيد، ليس في نيتي دحضه او التقليل من شأنه. انه انتاج مهم ومتنوع، سواء كان انتاجاً معمارياً او صناعياً، برغم الاعاقة المرضية التى ابتلى بها المعمار مؤخرا. (في سنة 2003، وبسبب عدوى مجهولة المصدر lt;يقال بانها التهاب السحايا الجرثوميgt;، جعلت كريفز مشلولا في منطقة ما تحت الخصر). ومع هذا، فقد ظل انتاج مكتبه: quot;مكتب كريفز ومشاركوهquot; غزيرا ومتنوعا متخطيا جغرافية بلده الولايات المتحدة، الى بلدان عديدة ومناطق جغرافية مختلفة، كمصر واليابان والهند وسنغافورة وغيرها من البلدان، مثريا الخطاب المعماري بنماذج تصميمية، ذات اشكال معبرة واستثنائية في لغتها التكوينية. لكن ذلك، بالطبع، حكاية آخرى. حكايتنا، الآن، هي عن عمارة دارة هانسيلمانquot;، العمارة الصافية وquot;العفيفةquot;.. والجميلة جداً.
لا تخطئ العين، عند مشاهدة عمارة الدارة، الموقعه في ركن مرتفع فسيح، يجتازه، عند قطره، ممر مائي، وتحيط به الاشجار من كل الجوانب؛ إذا ما ردت عمارته الى فيلات quot;لو كوربوزيهquot; الشهيرة، التى أُبتدعت في نهاية العشرينات واوائل الثلاثينات. لقد أريد، لتلك الفيلات، وقتها، ان تعكس تماماً بتصاميمها المعبرة، قيم ومبادئ عمارة الحداثة، التى كان المعمار الفرنسي المعروف، احد مؤسسيها المرموقين، وواحد من روادها البارزين. انها تلك المنشآءات، ذات الاشكال الهندسية المنتظمة، الطامحة لعمل قطيعة مهنية وابستيمولوجية مع اي اسلوب او طراز معماري سابق، والتائقة بفورماتها المميزة، الى تأسيس quot;ظاهرةquot; تصميمية وتكريسها، درج التعبير عنها بمقولة مجنحة هو إن quot;الشقة ماكنة السكنquot;، تماماً، مثلما يكون توقيع الفيلا quot;الحداثيةquot; في موقعها، متماثلاً مع مقولة آخرى تدعي أن الفيلا هي محض: quot;ماكنة في حديقة!quot;. ولئن، امست، لاحقا، تلك القيم التكوينية وتمظهراتها التصميمية جزءاً من الذاكرة المعمارية، فان quot;تاريخانيتهاquot; وذائقتها الجمالية، كانت دوماً، مثار اهتمام كثر من المعماريين، لجهة اعادة قراءة تلك المفاهيم، وجعلها مرجعية تصميمية لمقاربات معمارية، اشتغل عليها معماريون معاصرون في بلدان عديدة. ومن ضمن اولئك ثمة معماريون امريكان شباب، وقتذاك، عملوا في وقت واحد في مدينة نيويورك، سعوا وراء اعادة انتاج لو كوربوزيه ومفاهيمية التصميمية، والنظر الى عمارته كنسق مضمر يختفي تحت عباءة quot;عمارة الحداثةquot; ومفاهيمها، ولكن بالطبع، على وفق رؤى معاصرة، تطمح الى الاشتغال على تأويل مهني جاد لتلك المفاهيم. دعى احد النقاد المعروفين، في كتاب صدر عام 1972، هذه المجموعة المهنية، التى سبق أن اشتركت معاً في عام 1969، بمعرض خاص بالبيئة ، نظمه متحف الفن الحديث بنيويورك، بـ quot;النيويوركيين الخمسةquot;، وهم اضافة الى مايكل غريفز، بيتر ايزنمان، وريجارد مايير، وجارلس غواثمي، وجون هجدوك.
يتعاطي quot;مايكل غريفزquot; مع ثيمته التصميمية، المكلف بها، وهي تصميم دارة عائلة quot;هانسيلمانquot; المتكونة من والديّن مع ابنائهما الاربعة، على قدر كبير من الابداع، واضعاً، كما يبدو، نصب عينيه عمارة lt;فيلا سافويgt; (1931) quot;الكربوزيويهquot; في بواسي بالقرب من باريس، موضوعاً لاستلهام حله التكويني، الحل الذي يسعى وراء بلوغه عبر توظيف استراتيجيات التناص. من هنا، يمكن تفسير بلاغة حضور quot;المزاجquot; الكربوزيوي، المتمثل بالهندسية الصافية، والفتحات الكبيرة المتناوبة مع صلادة الجدران، فضلا عن طغيان اللون الابيض، المستخدم في دهان الواجهات، وألاهم حضور quot;الفضاء المنسابquot;، كمفردة اساسية في تشكيل التكوين المبتدع.
ثمة مربعان يخطهما المعمار في الموقع المحدد لدارته. اولهما واقعي، ينشئ مكعباً مغلقاً، كناية عن أحياز الدارة ذاتها، والآخر، quot;إفتراضيquot; يقع في مقدمة الدارة، يحصر فضاءً حراً، يتطلع المعمار الى quot;تكريسquot; حضوره الرمزي، محدداً تخومه من خلال شاشات من السطوح الخرسانية البيضاء، والقضبان الحديدية (مع الاسف، تم التغاضي عنه اثناء عملية التشييد). يقود سلم مكشوف الى ممر مفتوح هو الاخر يصل الى مستوى الطابق الاول للدارة. وهذا السلم يخترق طبقة اولى من مجموع الطبقات Layers الثلاث، التي ابتدعها المعمار والتى نشد عبرها ان يرى متلقي عمارته واجهات مبناه. إذ تتكشف للزائر واجهة الدارة الرئيسية (الشرقية)،عند بدء الممر المفتوح، وهي تعمل بمثابة الطبقة الثانية. اما الطبقة الثالثة فهي في الجدار الخلفي الذي يرى عبر الجدار الزجاجي، المعلق عليه، باكمله، لوحة جدارية ملونة، ترمز بمضمونها التجريدي الى المبنى وشاغليه.
تتكون الدارة من ثلاثة طوابق، يشكلها المكعب quot;الواقعيquot;، الذي اشتغل عليه المعمار. فالمنسوب الوسطي، الذي يتصل بالممر المفتوح، الذي تحدثنا عنه تواً، يشكل المدخل الرئيس للدارة، ومستواه مخصص اساساً، للمعيشة بالاضافة الى المطبخ وغرفة الطعام. وبامكان المرء، ان ينزل الى الاسفل، نحو الطابق الارضي، عبر سلم موقع بالقرب من المدخل، ليصل الى قاعة الالعاب مع اربع غرف نوم مع ملحقاتها. كما يمكنه أن يصعد، من ذلك المنسوب الوسطي، نحو الاعلى، الى الطابق الثالث، من خلال سلم آخر، يعمل كفاصلة بين المطبخ وغرفة المعيشة الرئيسية، ليصل هناك الى الطابق المخصص بأكمله الى رب الدارة مع زوجته، والمتضمن غرفة نوم رئيسية مع مكتب ومنازع وحمام، بالاضافة الى شرفة يمكن الاطلال عبرها الى المنظر المحيط بالدارة، كما يمكن، منها، رؤية فضاء منسوب الطابق الوسطي.
يشي التوزيع التبسيطي لفضاءآت المناسيب المختلفة، برغبة المعمار نحو توزيع عقلاني لوظائف احياز الدارة. لكنه من جانب آخر، يتوق الى التغاضي عن تلك التبسيطية وإغفالها، فيستدعي بقراره التصميمي، المترع بالاجتهاد التكويني. مفردة quot;الفضاء المنسابquot;، ويجعلها تعمل كأداة ناجعة لتحقيق مسعاه. بيد ان الاشتغال على توظيف تلك المفردة، هنا، في تكوينات دارة quot;هانسيلمانquot;، لا يبتغي منها الحصول على نتائج متوخاة فحسب، وإنما، أيضا، تأكيد مسعى المعمار، في إظهار quot;انتماءآتهquot; التصميمية نحو مرجعيته المبجلة: عمارة لوكوربوزيه. فيغدو حدث إستحضار تلك المفردة التكوينية، القريبة الى قلب المعمار الفرنسي الشهير، وتوظيفاتها الفطنة في الحل التصميمي للدارة، بمثابة اشهار بيّن لمكانة التأويل واجراءات التناص التى يجريها المعمار مع مصادره المعرفية. يتجلى أثر تلك المفردة، وفعلها التكويني في الربط البصري بين احياز الدارة ذات الوظائف المختلفة، والمتنوعة في مناسيبها. ثمة فضاء بارتفاع مزدوج يصل بين غرفة المعيشة والطابق الاعلى منها، لكن هذا الفضاء، الذي بدا حافلا بالإحساس النحتي، الذي اعتبره المعمار quot;ضربةquot; التكوين، لن يدعه بسهولة يفلت من يديه، مستخدما اياه كذريعة لكسر quot;رتابةquot; الهندسية المنتظمة التي تعج بها عناصر الدارة. ثمة، إذاً، نزوع لدى المعمار يتمظهر في خلق تناقض تشكيلي، بين ما هو منتظم وغير منتظم، ينشد به بلوغ تكوين تصميمي مفعم بالحيوية ومترع بالدينامية، وحافل بالاشراق والضياء. وبهذا، لن يعد حدث استعارة quot;الفضاء المنسابquot; هو المهم في تكوينات الدارة، وانما المهم، هنا، نوعية التعاطي معه (مع الفضاء المنساب) تصميمياً، وكيفية تناوله تكوينياً. فـ quot;المعاني مطروحة في الطريق- كما كان يقول يوما ما lt;عمناgt; الجاحظ ابو عثمان عمرو بن بحر (775-868) - ..,وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء..quot;. نعم، هذا هو المطلوب، وفي هذا، تحديداً، يكمن جوهر الموضوع الابداعي وماهيته. فالجميع ربما يعرف قيم وعناصر الحداثة، وعلى اطلاع تام على منجز لوكوربوزيه، وعلى خصائص عمارته، وتحديدا قيمة quot;الفضاء المنسابquot; لديه. كل ذلك يمكن ان يكون معلوما ومعروفاً. لكن الفعالية الابداعية لا يمكن لها ان تنحصر بمجرد المعرفة بتلك القيم، كما لا يمكن لتاثيراتها ان تبرز لمجرد التلاقي معها، وإنما القضية الاساسية تكمن في كيفية تفسير تلك quot;المعانيquot;، في نوعية التوظيف واسلوبه؛ في الاستخدام، في التأويل، والاهم في القدرة على الابداع من صلب تلك quot;المعانيquot; المطروحة على قارعة الطريق! وتظل، بالطبع، دارة quot;هانسيلمانquot;، بعمارتها المعبرة، وفورماتها المميزة، وهندسيتها، ولا بأس من التكرار، quot;العفيفةquot; والصافية، درساً معرفياً نافعاً ومفيداً، في اعادة القراءة، والتثاقف، والتطلع بثقة نادرة لاجتراح عمارة، يضفي حضورها البهيّ في المشهد، مسرة مضافة لنا..ومتعة ايضاً.
عندما صمم quot;مايكل غريفزquot; مبنى lt;بلدية بورتلاندgt; (1980) Portland Building، في بورتلاند، أريغون، كان ذلك تتويجا، وتأشيرا لمرحلة جديدة في مسار هذا المعمار الامريكي المبدع: تتويج لسلسلة من التجارب التصميمية التى اجراها قبل بورتلاند، لاختبار صدقية تكويناته، والتأكد من تأثير مفردات لغته التصميمية، عما توصل اليه من خلال اطروحته التى دعاها quot;العمارة المجازيةquot; Figurative Architecture، والتأشير: لمرحلة جديدة في مساره المهني وكذلك المسار التطوري للعمارة، بتكريس مقاربة quot;عمارة ما بعد الحداثةquot; في المشهد المعماري. وكان ذلك الظهور المميز لتلك العمارة، يشي، ايضاً، بقطيعة تامة ونهائية مع ما اجترحه، يوماً، في quot;فورت واينquot; بانديانا، ليس فقط lt;دارة هانسيلمانgt; التى تحدثنا عنها تواً، وانما ايضاً، lt;دارة سنديرمانgt; (1969-77) في ذات المكان، وتقريبا في ذات..الزمان.
بيد ان هذا، موضوع لحكاية آخرى!..
مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون