تنحاز قصائد مجموعة شعرية جديدة للشاعر العراقي باقر صاحب، حملت اسم "ترنيمة سوداء"، الى التعبير عن الأمل، في خضم بيئة غارقة في الحزن، لكنه يستفز هذا الإحباط بوخزات شعرية تستنهض ما يختبأ من التحدي في الأرواح المنهكة

وفي أسلوب من الكثافة الشعرية، والاشارات الخاطفة، وفي سياقات لغة منتظمة من اول المجموعة الى آخرها، يسعى باقر صاحب الى عبارة شعرية مشاكسة لإنتاج قصائد ترسخ في الذاكرة. وفي اغلب القصائد، يتحسس القارئ بكهرباء صادمة تنتج عنها ومضة فكرة، لتنساب القصائد العشرون التي ضمّتها المجموعة مثل شلال ضوء. والمجموعة الجديدة الصادرة عن، "الدار العربية للعلوم- ناشرون"، وتقع في 88 صفحة من القطع الوسط، هي الثالثة للشاعر، بعد مجموعتين صدرتا في التسعينيات، هما "جياد لن تصل"، في 1997، و"طيور يومية" في 1999.& ومن جديد يعزف باقر صاحب على أوتار من الألم والأمل، موزعا الأناشيد القصيرة على قرائه، هي أقرب ما تكون الى زقزقات العصافير وهديل الحمام في قصرها واستدراكها المعنى المكثف. وبدى الشاعر في الكثير من المواقف الشعرية، هادئا حتى في أشد الثيمات الشعرية توترا، جاذبا القارئ في هدوء الى بيئة شعرية يوقظ فيها الذاكرة برشقات من الفرح في اكثر من موقف.
تضيف الباقة الجديدة من الشعر الحديث، الى مسيرة باقر صاحب الشعرية، نمطاً جديداً من التصوير الشعري الحافل بالأمكنة والازمنة والمشاعر المرتبطة بها، والتي تحولها الى كائنات حافلة بالروح من حولنا. ويستدرج باقر صاحب، القارئ الى غابته الشعرية معولا على جولة ممتعة تقوده الى غابات من الحزن والاشتياق والمفاجآت الخاطفة. وفي المواقف التي يتحوّل فيها المكان الى طلل، فان الشاعر يغادره بسرعة الى مواقف شعرية مليئة بالأوطان والبقاع العامرة.
وفي كل قصائده على الاطلاق، تتجلى الرمزية التي تقود القارئ الى صورة من الألوان التعبيرية المشرقة. وفي مقدمة المجموعة ينبّه الشاعر الى رمزه الأنثوي الى انه "سيخلع بلاغته ويتقمّص قدميها للسباحة في نهر الميدان". و قصائد المجموعة التي كتبت بين الأعوام 2000 – 2012 يستهلها الشاعر بقصيدة حملت عنوان "صفعة البداية" وسعى فيها الشاعر الى عرقلة التقادم في الروح والمادة بالتسلل الى وسامة الشباب فيقول: "/ اكتبْ/ كي تزجر شيخوخة أيامك/ عن التسلل الى وسامة روحك، منتفضاً على اليأس". وفي نفس الوقت، فان من دواعي الكتابة بحسب الشاعر، هو تجاوز الرتابة والاحساس بالمتشابه فيقول: اكتب كي تجمل ما تبقى من يومك/ كي لا تزريه قيود الغبار والحر ودورة العمل والبيت".
وفي مواضع شتى يخاطب الشاعر انثى ما، بحذر وحرص عليها من نفسه، فيتحدث في قصيدة "كغناء في سلخانة" عن "سوط الرغبة يتحدث بما لا يليق عنك/ دائرة سياط عتيقة/يتمرغ عريك في محرابها/ اجيبي مرة مياهك الناهضة/ لانتشالك من الوخز المستمر". غير ان الشاعر في قصيدة "ذبولاً"، يحرض على فيض من الأسئلة الفلسفية المتلاحقة التي بدت وكأن الشاعر لم يجد الى الان جوابا لها، ليستمر في إلحاحه، قائلا "قالت الحياة لست لذيذا في احضاني/ قالت الموت شاهدتك تتضور 47.. ذبولا".
وتبلغ اقصى مراثي الشاعر في قصيدة "أمّي" ويبدو فيها غارقاً في دوامة من حزن عميق، يجاهد في بناء بصيص أمل على انقاضه، فيقول "أمن عجزنا رؤيتك، راح الانسان يعبث ويغامر ويهزم/ يرفع راية بيضاء ولا يراك". وتتوالى الومضات الخاطفة للشاعر وتبلغ أوجها في آخر المجموعة، الغنية بالصور المختزلة والعبارات المحبوكة، المركزة على المعنى، فيقول الشاعر في النهاية في مقاربة صوفية : تلدني الرؤيا/ فاضحك من رعونة الزوال/ واتلق في هوة السلام؟.. ألد واتفرقد/ اقرع حليب البكاء/ لأني ولدت برزخا بين سلسلتين".
&