(دبي): صدر حديثاً عن دار quot;ورقquot; للنشر والتوزيع رواية quot;نعيمة- قصة أمي الطويلةquot; للكاتبة التشيلية من أصل سوري إديت شاهين، التي صدرت طبعتها الأولى بالاسبانية عام 2002، وعرَّبها المترجم رفعت عطفة بحوالى ستمائة وعشرين صفحة من القطع المتوسط.
الرواية سِفْرٌ أدبي جميل، يروي تاريخ سوريا عشية الحرب الكونية الأولى على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال رصد مسارات بطل الرواية quot;يوسفquot;، الذي دفعت به الأقدار للهجرة إلى الأميركيتين بحثاً عن الرزق، شانه شأن عشرات آلاف السوريين في نهايات القرن التاسع، بعد أن شاخت السلطنة العثمانية، وأنهكت قواها الحروب المفتوحة على جبهات مختلفة، دامت لسنوات عدة، فصارت quot;الإنكشارية العثمانيةquot; تأكل خيرات البلاد والعباد معاً كوقود للحروب المفتوحة، ما جعل بلاد الشام نهباً للفقر والمجاعات، وفساد quot;الجندرمةquot;، فكانت الهجرة بوابة الخلاص للشاب اليتيم يوسف ابن التاسعة عشر ربيعاً، حيث تطوح بالمرافئ والسفن في رحلة استغرقت عامين إلى أن استقر المقام به في تشيلي، وعمل هناك مدة خمسة أعوام متتالية، ما جعله يكون ثروة صغيرة، تكفي لتأسيس حياة جديدة في مسقط رأسه، فعاد إلى بلدته quot;أوتانquot; في حمص عام 1912، وكان يهجس بشراء بعض كروم العنب، وتشييد منزل ومن ثم الزواج وتكوين أسرة صغيرة تعوضه قسوة اليتم والحرمان الذي عاناه بطفولته، فضلاً عن مشقات الاغتراب. وبالفعل باشر يوسف بتوقيع أحلامه على أرض الواقع فور وصوله إلى بلدته، فاشترى أربعة كروم عنب، ومنزلاً وخطب نعيمة وتزوجها، إلا أن نُذر الحرب العالمية الأولى بدأت تلوح بالأفق، حيث راحتquot;الجندرمة العثمانيةquot; تطبق مجدداً على المدن والقرى، لجمع شبانها ودفعهم إلى مايعرف بالمرويات الشعبية quot;سفر برلكquot;، التي كتب عن أهوالها ومشقاتها الكثير من الكتب، ولم تنته حكاياتها المأساوية مع نهاية الحرب، وإنما رافقت السوريين لسنوات من الانتظار وتسقط الأخبار عن ألاف الرجال الذين شاركوا فيها ولم يعودوا أبداً.
أقدم معمورة
ولكن يوسف أو بطل الرواية الذي تفتح وعيه في الاغتراب، حيث عرف ماضي بلاده الضارب في أعماق التاريخ، وأدهشه أن quot;الشامquot; هي أقدم معمورة مأهولة على كوكب الأرض، وأن بلاده هي ملتقى الحضارات ومهد الديانات، وأرض الخيرات والثروات، المضيعة في حروب السلطنة، هذا إلى جانب طموحه الجامح بالاستقرار والعيش الكريم بكنف أسرة افتقد دفئها مبكراً، بالاضافة إلى رفضه المشاركة في الحرب، فتعددت الأسباب التي جعلته يرفض هذا الواقع جملة وتفصيلا، ما جعله مطاردً للسلطات العثمانية قبل أن يكتمل العام على عودته.
ترصد الرواية مسارات هروب يوسف داخل سوريا بدءاً من حلب ودير الزور إلى تدمر وطرابلس وبيروت فالشام العاصمة ومن ثم العودة بالخفاء إلى حمص، ليحمل زوجته وشقيقته الوحيدة، بحثاً عن سفن ومرافئ جديدة في هجرة أخرى يعرف نهاياتها وخبر مساراتها في الهجرة الأولى.
الكاتبة أديت شاهين رغم أنها مولودة في تشيلي، وعاشت فيها ردحا طويلاً من عمرها، وهربت بدورها من حكم الجنرال أوغست بينوشيت الديكتاتوري، الذي أطاح بحكومة سلفادور الليندي المنتخبة، أول تجربة ديمقراطية في أميركا اللاتينية عام 1973 ، فاستقرت في اسبانيا كأستاذة جامعية، وأنجبت فيها ابناءً وأحفاداً، ولم تعد حتى اللحظة إلى تشيلي، كما أنها لم تزر سوريا نهائياً حتى عام 1997 ، حينما وطأت أرض الشام كسائحة، حاولت خلالها أن تتلمس مسارات هروب والدها، الذي لم تحتفظ له بصورة في ذاكرتها، وإنما عرفته من خلال حكايات الأم، لأنه مات وكان عمرها بضعة شهور، فهي آخر العنقود الذي يتشكل من سبعة ذكور وسبع إناث أنجبتهم نعيمة، كما فعلت أمها منور عطرة، ودفنت مثلها بدقة متناهية، ستة ذكور لحظة ولادتهم أو بعدها بشهور أو سنوات قليلة، فعاشت الإناث السبع بصحبة شقيق واحد في الحالين. إلا أن شاهين كتبت عن أدق التفاصيل في الواقع السوري في مطالع القرن العشرين، بلغة سردية جذابة، مفعمة بالحنين إلى الجذور، ومشبعة بدقائق التاريخ والجغرافيا، فالتقطت بعين quot;راداريةquot; مرهفة الثقافة الشعبية في القرى والأرياف السورية، خصوصاُ على مستوى العادات والتقاليد والأعراف في الأفراح والمسرات، كما في الأحزان والملمات الصعبة، كما لم يفعل الكتاب السوريين المقيمين في جنبات البلاد منذ نشأتهم حتى مماتهم. ما يجعل المتلقي يتساءل عن سر هذه الخبرة والحرفية، في التصوير الأدبي الماتع، الذي تميزت به رواية quot;نعيمةquot; لجهة التعامل مع المعيوش اليومي، في واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي قبل مائة عام بالتمام والكمال، لم تره الكاتبة إديت شاهين بعينها ولو لمرة واحدة؟ وهل حقاً أن معينها الوحيد، كان من حكايات الأم نعيمة، ورسائلها لحفيدها، وحكايات أبناء الجالية السورية التي كانت تلتقيهم في المناسبات، كما تقول شاهين؟
الأقدار الفائقة
ربما متعة قراءة الرواية، تغني عن الإجابة على مثل هذه التساؤلات، لأنها تنطوي بحق على محمولات فنية وجمالية وفلسفية غاية في الأهمية، وبخاصة على مستوى الدلالات الوجودية المتعددة، سواء لجهة تكرار مأساة السوريين في الفرار من بلادهم في مثل هذه الأيام بعد قرن على فراهم الأول، أو لجهة فرار الأم نعيمة من سوريا إلى تشيلي، الذي يتكرر مع إبنتها إديت، الكاتبة عينها، بالفرار من تشيلي إلى اسبانيا، أو لجهة التساوي بعدد الأبناء وموت ستة ذكور لكل من الأم والإبنة. هل هي الدورات الوجودية المتعاقبة، التي يتحدث عنها الفلاسفة، وتتكرر على فترات تاريخية متباعدة؟ أم أنها صُدفة الأقدار الفائقة بعذاباتها، التي تجعل للفناء أسباباً يستوعبها العقل الإنساني؟ وهذا ما يجعل ترجمة الرواية إلى العربية في هذا الوقت بالذات، وعرضها في quot;مهرجان أبو ظبي الدولي للكتابquot; الحالي quot;ضربة معلمquot; كما يقولون، وتُحسب للكاتبة عائشة سلطان صاحبة ومديرة دار quot;ورقquot; للنشر والتوزيع.