تكتب الشاعرة اللبنانية الشابة (بانة بيضون) في نصها الشعري ما يشبه فائضا للكلمات ؛ فهي لا تختبر الشعر إلا بوصفه مرجعية لحياة في العتمة؛ حياة لجسد مخبأ في ركن صغير من العالم، تصل فيه الأشياء إلى حدود الوهم، وتستبدل عنها مجازات عدمية، قد لا تعني أحدا تقريبا.
ففي مجموعتها الشعرية "حارس الوهم" الصادرة عن دار النهضة العربية ببيروت بطبعتها الأولى عام 2012م ثمة ما يضعنا أمام خيارات شخصية جدا للشعر، عبر ذلك النسق المتصل بهوية عابرة، وكينونة ضجرة من عالم الحواس الصغير حين يعبث بجسدها، فالجسد في هذه المجموعة ليس سوى جسد متصل بالحواس في الجانب المظلم منها حيث: الألم، الوجع، الفراغ، العتمة ؛ الجسد في انهمامه بما يسقط منه منسيا ومتحورا في حياة أخرى ترصدها الشاعرة، لتضعنا فجأة أمام أسئلة كيانية كبرى تحضر ببساطة، وتبدو جزءا من النهايات المفتوحة لحكايات الجسد الصغيرة.
(اقتطعت مرة وأنا أفرم البندورة
قطعة صغيرة من اصبعي
لم أجد اثرا للدم لكن تجويفا صغيرا والجلد حوله مقصوص بعناية كأنه من فعل جراح
ولم يكن أحد يعرف أن ذلك الاصبع مشوه
وأن القطعة الناقصة تسبح في السلطة
جروحي كانت دائما تلتئم بسرعة
قبل أن يتسنى لي أن أتألم
حتى قلبي أقص من لحمه كل يوم
ولا يفقد من وزنه
لا أحد يدرك أنه نقص عن ذي قبل
الأسوأ أن كل شيء يولد أطرى
والقسوة تمزقه كشعرة قاسية تشق طريقها خارج الجلد
لماذا هي ذاكرة الوجع دائما التي تبقى)
هذا المقطع الطويل من قصيدة (ذاكرة الوجع) ربما كان ضوءً لذلك المجاز الساحر والمتصل بايهام يصدم القارئ من حيث المعاني الشكلية للنص، لكن فحص دلالة البنية اللغوية لسياق المقطع ونهايته الوجودية تضعنا حيال معنى جوهري، أي حيال إرادة مجازية تتوسل تلك التقنية الصادمة لتجعلها مقابلا موضوعيا لفكرة النص الأساسية: الألم بوصفه ذاكرة أبقى للوجع الانساني.
العتمة هي مرصد العالم من داخل أعماق الذات، فالشاعرة تتبع العتمة حتى في سعير الشمس.
(كل يوم كلما بدأ سعير الشمس
ابتلع أول نفس
ثم أتجه نحو آخر زاوية لم تغتسل بعد ببهجة هذا النهار الجديد.
أهبط مجددا وأفكر بكل تلك الأزقة التي لم استهلكها بعد) (قصيدة: سعير الشمس)
انهمام الذات الشعرية في هذا النص لا يعني أحدا، ولا حتى الشاعرة نفسها ؛ فذلك الانهمام هو بمثابة اضطرار عدمي للعيش في العالم ضمن اكراهات الجسد. وهنا حتى الحب يحضر مضفورا في ذلك العناء المصاحب لثقل العالم على الذات ؛ فالحبيب يحضر في بعض نصوص المجموعة كغريب وعابر أو حتى طيف متردد في الأزمنة ؛ ذلك أن الحب الطالع من الحفر على الجسد هو فقط وهم الكينونة حينما تبحث عن غريبها الغائب:
(للفتاة جسم يملأه السكون
تحفر على معصميها طيف ابتسامة
تخبئها للغريب
الذي مر منذ زمن)..... (قصيدة الغريب)
تنطوي مجموعة (حارس الوهم) على مصاحبة عسيرة للذات في العالم، ونظام موحش لمفردات من قاموس الأسى والألم والعواطف اليائسة. يمكننا القول أيضا أن ذلك النظام الموحش لحيوات المجموعة هو في صميمة تفاعل حساس للذات مع خارج قاس ومشوه ومنعكس لصورة العالم تقول الشاعرة في إحدى قصائد المجموعة:
(وقف العالم لبرهة يتأمل نفسه
ومن شدة ذهوله قفز إلى داخل المرآة ليحطم صورته
فتلاشى تماما وصار انعكاسا داخل انعكاس
وحدنا لم نزل نبحث بين المرايا
عن الوجه الحقيقي لهذا العالم).... قصيدة (انعكاس داخل انعكاس)
ولعل أبلغ نص في توصيف الذات الشاعرة هو قصيدة (تراجيديا) حيث تضجر الشاعرة من ذاتها وتعجز عن التخلص من عبء ظلها الوجودي عبر حوارية كاشفة مع الذات. تقول الشاعرة لظلها المتخيل:
(لماذا تتعقبينني يا صديقتي الغائمة
أخبرتك أنني لا أستلطفك
فلم لا ترحلين لأبد الآبدين ؟
مللت منك
كل رواياتك تشبه يعضها
ودائما أنا الضحية
قتلتك العديد من المرات
وكل مرة تعودين من الموت بأعجوبة)
في المجموعة قصائد كثيرة على مدى 124 صفحة تحيل في مجملها على ذلك الأسى المتغلغل في جلد الشاعرة وحواسها والمنعكس منها على العالم مفيضا عليه ألوانا أخرى من العواطف المعتمة.
وخلال القصائد تبدو حساسية الجسد الفيزيقي وزوائده المهملة والموظفة شعريا في قاموس الشاعر ا (عباس بيضون) ــ والد الشاعرة ــ حاضرة، بصور ما، لكنه حضور مستبطن وعميق ومندمج في التجربة النوعية للشاعرة.
&كما تحضر بعض ثيمات الشاعر (وديع سعادة) المتصلة بالعودة إلى أصل الأشياء قبل حضورها في صور الحياة، وهي بطبيعة الحال ثيمة انسانية كبرى، وقابلة للتجريب الشعري المتجدد.
القارئ الذي لا يعرف أن الشاعرة (بانة بيضون) شاعرة شابة لربما استوحى من عوالم المجموعة مخيالا بائسا لكائن شاخ على حافة العالم.
&بيد أن الشاعرة نفسها تفزع أحيانا من ضغط العتمة التي تلف حواسها وعواطفها حيال العالم فتقول في إحدى قصائدها:
(نعيش لنشفى مما سبق وعشناه
ويبدو أنه اثناء ذلك تحدث الحياة
أخجل أحيانا من كل ذلك السأم الذي لا يناسب عمري
فأبالغ في الرقص والطعام والشراب).

* ناقد وشاعر سوداني مقيم بالرياض&
&