&صدر عن دار ومكتبة عدنان/ المتنبي- بغداد 2017، كتاب جديد للدكتور إبراهيم الحيدري المعنون "الثابت والمتحّول في الشخصيّة العراقية"، وهو دراسةُ سوسيولوجية للتغيرات البنيوية التي حدثت للشخصيّة العراقية خلال العقود الأخيرة حتى عام 2003.

لقد عانى العراق على مرِّ التاريخ& الكثيرَ من التسلّط والظلم والاضطهاد، الأمر الذي جعل الشخصيَّة العراقيَّة في مدٍّ وجزرٍ وتغيّرٍ وتذبذُبٍ، ومن أجلِ ذلك يصعُبَ الحديث عن السمات الثابتة للشخصيّة العراقيَّة في جميع المراحل التاريخيَّة. وعلى الرَّغم من ذلك توجد خصائص وسمات أنثروبولوجيّة واجتماعيَّة ونفسيّة، تكون قاسماً مشتركاً بين أكثر العراقيّين، تجمع الأَنَا والنحنُ في وحدة تكامليَّة. وإذا لم تكن هذه السّمات قَطعيّة ونهائيَّة، لا يمنعنا ذلك من تعميمها على أكثريّة أفراد المجتمع العراقيّ.&
يحتوي الكتاب على مقدمة وثلاثة فصول: يتضمن الفصل الأول إشكالية الثقافة في العراق وعلاقتها الجدليّة بالشخصيَّة؛ لأهميتها الاستثنائيّة في هذه الظروف المعقّدة، التي يمرّ بها العراق بعد الرِّدَّة الحضاريّة، التي تعرّض لها في العقود الأخيرة، محاولين شرح مفهومات الثقافة وتعريفاتها المتعدّدة، ودور سياق التثقيف في التنشئة الاجتماعيَّة، وتأثيرها في بِنية الشخصيَّة، إلى جانب ما تلعبه الثقافة من دور مهمٍّ في تشكيل الذهنيَّة، ومنظومة القِيَم والمعايير وقواعد السلوك والعمل والتفكير وتأثيرها على الناحية المزاجيَّة. وإذا كانت الثقافة تمثّل الوجه الآخر للمجتمع، فتأثير المجتمع على الثقافة لا يقلّ أهميَّة. فالشخصيَّة لا تنمو ولا تتطور إلّا من طريق الحياة الاجتماعيَّة، بوصف الإنسان كائنًا اجتماعيّا، يتأثّر في الظروف الاجتماعيَّة المختلفة ويؤثّر فيها. كما يبحث المؤلف في العلاقة بين الثقافة والسلطة& والايديولوجيا وعسكرة المجتمع من قبل النظام السابق بحيث لم يعد المواطن سوى ذاكرة حربية لا غير.
وفي موضوع الشخصيَّة؛ قدّم المؤلف تعريفات عديدة لمفهوم الشخصيَّة، مركّزا في أحدث النظريات الاجتماعيَّة والنفسيّة المعاصرة، مثل: نظرية فرويد وأدورنو وأريش فروم وغيرهم. وكذلك على العلاقة الجدليَّة بين الوراثة والمحيط، وتأثيرهما على شخصيّة الإنسان، وعن أهمّ الدراسات والبحوث التي درست الشخصيَّة العراقيَّة والعربيّة، ولاسيّما دراسات عليّ الورديّ وجمال حمدان، مؤكدين على دور النظام الأبوي البطريركي في تشكيل العقلية العراقية المنقسمة على ذاتها وكذلك على مفهوم الشخصيَّة المتسلّطة كما جاء عند أدورنو، وعلى مفهومي الساديّة والمازوشية كما عند أريش فروم.
ويتضمن الفصل الثاني دراسة سوسيولوجية للشخصية العراقية ومعرفة سماتها الثابتة والمتحولة إضافة الى دراسة مقومات الشخصية وعناصرها المادية والمعنوية. وفي مقدمة الخصائص والسمات الثابتة نسبيا للشخصية العراقية انها شخصيّة حيّة وحضرية بنّاءة، وانفعالية مسالمة بطبيعتها، ولها قدرة على الصبر، وقدرة عالية على التكيّف مع الظروف. وقد بقيت الشخصية العراقية حتّى منتصف السبعينيّات من القرن الماضي في طريق تكاملها من حيث الاستقرار والثبات والتوازن بين مكوّناتها وعناصرها؛ بسبب التحديث والتقدّم الاجتماعيّ النسبيّ، الذي واكب تطوّر الطبقة الوسطى في العراق. غير ان التغيرات والتحولات البنيوية التي حدثت لها بسبب سياسة النظام الشمولي السابق وسلسلة الحروب المدمرة وأهوالها ومن ثم الحصار الجائر الذي كسر هيبة الدولة وشوّه شخصيّة الفرد العراقيّ وهيّأ لاحتلاله وإذلاله، أحدث خللا وانكساراً& في& الشخصية العراقية& وسبب جروحا سيكولوجية عميقة جعلها منقسمة على ذاتها الى واحدة متسلطة قمعية(سادية) وأخرى عاجزة نكوصية(ماسوشية).
وبالإضافة الى ثنائية التسلط والخضوع، فان من خصائص العقلية(الذهنية) العراقية هي انها عقلية ماضوية وذات نزعة تغالبيَّة جداليَّة وكذلك عقلية انفعاليّة مزاجيَّة ومغتربة. وباختصار هي عقليّة منقسمة على ذاتها تعوزها الفردانيّة والاستقلاليَّة الذاتية والتحرّر من الأنا والآخر.
ان التحولات البنيوية التي رافقت تأميم النفط وتزايد وارداته والانتقال الى الدولة الريعية حوّل الدولة الى مشروع سلطة للهيمنة على الفرد والمجتمع ومن ثم على الثروة والمعرفة والثقافة التي قادت الى عسكرة المجتمع وتطويع الافراد والمؤسسات وتحويلهم الى مجرد آلات بيد السلطة. وان ثنائية التسلط والخضوع تبقي العلاقة المتبادلة بين الفرد والسلطة محصورة في قدرة المتسلط على اشباع حاجات الخاضعين لسلطته, وهذا ما يقوي "استراتيجية" الهيمنة والخضوع. فبسبب الخوف والرهبة من التعرض لمزيد من القمع والقسوة يندفع الأفراد بقناعة او بدونها, الى تبني آيديولوجية السلطة والاقرار بشرعيتها, وهي بدورها توفر لهم فرصا للتعويض عن بؤسهم وحرمانهم بما تعرضه عليهم من وظائف وامتيازات, التي هي في ذات الوقت اعتراف رسمي بوجودهم وتقديرا ذاتيا بقيمتهم المفقودة, ويدفعهم الى الاندماج اكثر في التوجه الآيديولوجي والخضوع للسلطة والقبول بان يكونوا أدوات في خدمتها.
ويبحث الفصل الثالث في التغيرات البنيوية التي طرأت على الشخصية العراقية في العقود الأخيرة . مؤكداً على ان جرى في العراق ويجري من تغيّرات بِنيَويَّة هي بسبب التَّرِكة الثقيلة التي تركها النظام السابق التي جعلت العراق يعاني خرابًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وانهيارًا قيميًّا وأخلاقيًّا، فضلا عما عاناه ويعانيه من قمع وفوضى وتفكّك. وإنَّ ثقافة العنف والصراعات الاجتماعيَّة والنفسيّة التي تراكمت، بفعل الحروب والحصار والاستبداد& ثُمَّ الغزو الاحتلال، ستستمر لسنوات لا يعلم أحد بما ستخلّفه وراءها من آثار وخِيمة على المجتمع والشخصيَّة العراقيَّة.&
& & لقد ألقى الغزو والاحتلال عام 2003 حجرًا كبيرًا في البركة الراكدة، فعصف بها وحرّك أمواجها بقوّة، وجعلها تتلاطم يمْنةً ويَسْرة، وهو ما دفع بالترسّبات المطمورة في القاع إلى أن تطفو على السطح. ولهذا نستطيع القول: إذا كانت الشخصيَّة العراقيَّة قد انقسمت على ذاتها في العقود الأخيرة على واحدة متسلّطة قمعيّة وأخرى خاضعة نكوصيّة، فإنَّها أصبحت مفككة ومشوّهةً، وفقدت بذلك أغلب سماتها الأصيلة. وان الردة الحضارية التي أصابت المجتمع العراقي وأرجعته للوراء الى ما قبل تأسيس الدولة العراقيَّة، كانت لها نتائج وخيمة على الفرد والمجتمع وعلى مستقبل العراق.
&