ينتج البشر نفايات كثيرة منزلية عضوية أو غير قابلة للتخمر وأخرى نفايات نفسية اجتماعية وكلاهما هما التمثيل الموضوعي والمادي للخوف من أن يتمكن التاريخ ممثلًا في الذاكرة الذاتية من السيطرة على الحاضر والمستقبل.

إيلاف: تمتزج في هذا الكتاب "النفايات "للباحث الأسكتلندي جون سكانلان، والذي نقله للعربية محمد زياد كبة، لحمة الفلسفة بسدى الفن الحديث فينسج حبكة متماسكة تروي قصة الوجود والعدم، والإنسان والخليقة.

الماضي هو النفايات لأن كل ما فات مات

ويكشف أنه إذا بحثنا عن الروابط بين مختلف الظواهر الخافية، والمنسية، والمهملة، والمتبقية التي نراها في الحياة على الدوام بصفتها الخلفية التي تصنع العالم أمامها، رأينا أن عادة الفصل هذه بين الغث والسمين منتشرة في كل مكان ضمن أساليب الغرب التقليدية في التفكير في العالم بدلًا من تقديم الدليل على نوع معيّن من مشكلة بيئية معاصرة مثل "النفايات"، بالمعنى المجازي للبقايا المنفصلة المتخلفة عن الأشياْء الثمينة لدينا. وفي الواقع فإن انفصالنا عنها هو ما يجعل شيئًا مثل الثقافة ممكنًا.

تجنب الموت
يريجون سكانلان في كتابه الصادر من مشروع كلمة أحد مشروعات هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة يقول إن النفايات ثمرة صراع غير محسوس بين الحياة والموت. ويعتبر أن "الموت هو رجوع الإنسان إلى المادة، أو إن شئنا تحوّل الجسم إلى نفايات. وهذا يعني أن علينا تجنب الموت لنحافظ على الحياة. وينشأ عن تجنب الموت هذا عدد من التناقضات. وهكذا نرى بعد التدقيق والبحث والتمحيص أنه حين تحاول المجتمعات الغربية استخدام المعرفة المتراكمة حول أساليب الطبيعة في صراعها مع الموت والمرض، وتحسين الصحة، فإن ما يشكل حافزًا على العمل (أي الموت) ينظر إليه بعد قرن أو أكثر من الزمن على أنه تحدّ للحياة تقريبًا، بدلًا من كونه حتمية لا مناص منها.

بالمثل فإن عملية "التنظيف الكبيرة" في القرن التاسع عشر التي أجبرت في نهاية المطاف أصحاب المحال الغذائية على حفظ المواد الغذائية من التلوث والفساد السريع باستعمال أساليب جديدة في التغليف والتخزين أنتجت مزيدًا من النفايات المادية، وهذا بدوره صار جزءًا من مشكلة أكبر، ونعني مشكلة التدهور البيئي، الذي يقال إنه يهدد الحياة على نطاق أوسع بكثير.

تاريخ ظل
كل ما يريده هذا الكتاب وفقًا لجون سكانلان النظر في إمكانية أن يكون جوهر كل ما هو مهم عندنا ناشئًا عن النفايات (ويترك المزيد منها سواء المادية أو المعنوية). لذلك من الممكن أن يقرأ هذا الكتاب بصفته "تاريخ ظل" للثقافة الغربية، أي تاريخ التخلص من النفايات.

في الفصل الأول محاولة لرسم خريطة التضاريس المجازية للنفايات. إذ ما يلفت انتباه القارئ هنا أن الفصل يبدأ بسلسلة من لقطات وصفية. وفي هذه المرحلة لا نرى ما هي النفايات بشكل واضح. كما يمكن أن تؤخذ هذه اللقطات كأمثلة عن الطرائق التي تمكننا من إلقاء نظرة خاطفة على النفايات، لكن من دون أن ندرك مضامينها إدراكًا كاملًا.

والهدف هو إظهار أن النفايات موجودة في كل مكان، مع أنها، وهذا غريب، لا تثير الانتباه في ما نعدّه ذا قيمة من خلال تجاربنا، وفي طرائق تنظيمنا للعالم، "سواء نحن أو العقل، تلك الإرادة المبعثرة للتنظيم". عندئذ نتابع النظر إلى النفايات من خلال مجموعة أفكار تمثل بقايا العيش المقتطعة والمنفصلة.

المورد الكبير
يحاول جون سكانلان في ما يلي اقتفاء أثر النفايات وفق خطوط محورية. فالفصل الثاني "النفايات والمعرفة" يبحث في دور المعرفة في تنظيف المشهد الفكري، وهنا نرى الميتافيزيقيا الغربية "التي تنتج بصفة عامة الفصل بين البشري وبين الطبيعي"، وهي مورد النفايات الكبير، الذي يثبت جذور تجربة الذات بالواقع وتطور التخصص التقني للطبيعة.&

أما الفصل الثالث "جماليات النفايات" فيبحث في تنوع البقايا، والقمامة والأعمال غير المنطقية، واللغة التي لا معنى لها التي ألهمت أعمال عدد من فناني القرن العشرين. ويواجه جون سكانلان في الفصل الرابع "قضايا النفايات" ـ كما يستدل من العنوان ـ المادة الفعلية للنفايات المادية، ويكتشف الأسباب وراء بعض استخداماتها غير المألوفة.&

أما الفصل الأخير "النفايات والغرائب" فيبحث في تجربة النفايات بجميع أشكالها بوصفها شرحًا لواقع غريب لوجود يبدو مع تقدم التاريخ أكثر ابتعادًا عن أصله الطبيعي، لكن من دون أن يتمكن من تحقيق الانفصال التام، ونتيجة ذلك فإنه يخلق حاضرًا تقض النفايات مضجعه.

تجسيد الأمل
نتيجة لهذا الفهم نستطيع أن نفهم الهموم البيئية التي تقلق خيال الحاضر بصورة أفضل في سياق شبح النفايات هذا حين نستطيع أن نشير إلى أن النفايات المادية في المجتمع المعاصر هي الشريك الموضوعي للنفايات المجازية. بعبارة أخرى، فأن أشباح النفايات هذه هي تذكرة فجّة لما نحن عليه بالفعل.

يؤكد سكانلان أن النفايات توفر تاريخًا ثانويًا للحياة الحديثة، حيث تمنحها شروط إنتاجها والوسائل التي تجعلها تختفي عن الأنظار دور البديل الثقيل للشخص؛ إنه الوجود الطيفي غير المألوف، الذي لا يقترن بالجسد إلا عند الموت، فيجسد الأمل الحديث بهوية الذات تجسيدًا كاملًا.&

إنها هوية تتحسسنا كمادة وحسب. وربما كانت أكثر تصورات النفايات النظرية ملاءمة موجودة في فكرة الغريب. فلو كانت النفايات هي الظل الثقيل الذي يتبع الحاضر (أي بديله الطيفي المشوّه) لاستطعنا التعرف إليها في فهم فرويد لما هو غريب (غير مألوف) بوصفه الشيئ أو الشكل المألوف إلى حد مخيف أو الشبح الذي لا يتوقف عن مقاومة أي من محاولاتنا الانفصام عنه – إنه المخلفات كحاضر ثقيل.&

ولادات متتابعة
ويشير إلى أن النفايات بشتى صورها تمثل الطبيعة (بما فيها الوجود البشري) بصفتها سلسلة لا تنتهي من الولادة والتحلل، لكانت محل تضخيم من جانب حقيقة تفيد بأن المعرفة والعقل ينطويان علي الفصل بين ما هو بشري وما هو طبيعي. هذه هي نتيجة قدرتنا على التكيف التقني ـ &حيث تؤخذ التقنية بمفهوم techne عند أرسطو – التي تشمل كل ما هو متميز عن الطبيعة phusisبمجملها، والطبيعة المشكلة في هيئة البشر التقنية كما كتب هايدجر، هي تهيئة الطبيعة للاستعمال.&

يخضع هذا الفصل ـ الأول ـ إلى المزيد من الضبط الدقيق من خلال تطور الحداثة التي منذ مجلس الشعب في العصور الوسطى إلى تقسيم العمل وتطوير اقتصاد الاستهلاك كانت توضح نزعة نحو سلسلة من الانفصالات أدت إلى المزيد من التميّز على الصعيد الفردي، الذي يولد في الوقت نفسه "ومن خلال شبكة الترابطات الاجتماعية المحافظة على الحياة" تجريدًا كاملًا من الواقع.

تجديد الرغبة
ويلفت جون سكانلان إلى أن الموضة تقوم على نزعة انفصام شخصي بمعنى أنها تكشف عجز المرء عن اتخاذ &قرار بشأن سلعة معينة ولفترة معينة من الزمن، ولأنها تشكل عقبة أمام القضاء على التوتر الذي يؤدي إلى رغبة في المستقبل، لاسيما وأن هذه الرغبة بحاجة إلى تجديد مستمر.

مع هذه الشروط غير الأكيدة تصبح السلع الاستهلاكية مثل تعويذات سحرية توفر إمكانية تجديد الذات. فيمكن لأنواع معينة من الاستهلاك أن تعبّر عن الشوق لعنصر شبه أبدي من التجربة يظهر أيضًا في الرغبة بتفادي الموت. ويقول مارك تايلور: "إن تكرار الموضة، المتلزمة بما هو جديد للأبد، محكوم عليه بالسير على خطى موت ما لا يموت".&

ويوضح أن السلع المنتجة من وجهة النظر هذه ليست سوى نفايات في حالة انتظار، أعطيت موقتًا شكلًا مفيدًا أو مرغوبًا من مادة أولية معينة لكي تجسد فكرة من أفكار لا حصر لها، تمثل عادة نقيض الموت أو التحلل – مثل الشباب، والجمال، وقوة البنية، والأجسام الرياضية والجنس وهكذا..&

ضريبة الحداثة
هل من الممكن تحقيق الرغبة في ظروف تكون فيها الحاجة نفسها هي ما يسبغ الموت في النهاية على المادة ذاتها؟،،، وإذا كانت عملية الرمي في النفايات لا تعلن نهاية فائدة تحددت ذاتيًا وحسب، بل تعلن، وبشكل مهم جدًا، فشل مادة ما من حيث الهوية في الاستمرار في قدراتها على تحقيق رغبة محدودة أو عارضة، أليس صنع النفايات في المجتمع الحديث إذن نتيجة تأكيد إيجابي للذات؟، إن أية إجابة إيجابية عن هذه الأسئلة تحملنا على الاستنتاج بأن الحداثة لا تدرك إلا بتوسعة النفايات.

يقول سكانلان: "ينبغي أن نرى أن الماضي مجرد نفايات أيضًا – فكل ما هو ماض قد استنفد، وبعُد، واستُهلك وصار فراغًا، مع ذلك فإن فيه تهديدًا لما هو غريب، وهو، بحسب فرويد، يدرك في إطار أشياء مألوفة إلى حد مرعب – أشياء، وصور، وأحلام، وغيرها – مما يقاوم أي محاولة من جانبنا للانفصال عنها.&

هذه البقايا التي نحاول إبعادها عنا ربما تشكل وجودًا ثقيلًا، لأن ما هو غريب عند فرويد "ليس شيئًا جديدًا أو غير مألوف، بل هو شيئ مألوف وقديم". إن النفايات عالم الأشياء، مثلها مثل الذاكرة، ليست بأقل من نتاج نظام أو منظمة. الفارق هنا هو أن التنظيم الاجتماعي يُخضع الاستهلاك للعقل، لذا فإن مخلفاته – بدءًا في هذه الحالة ببواكير المدن، وانتهاء بالمدن العالمية الكبرى في الرأسمالية المعاصرة، تقدم أي منتج من أي مكان يمكن تخيله منفصلًا انفصالًا تامًا زمنًا ومكانًا عن إنتاجه "وممتدًا بكل تأكيد من خلال التسوق الإلكتروني".&

صورة الخوف
نقول دومًا إن الجميل في المدن هو أنك تستطيع أن تحصل علي أي شيئ. صحيح أنه من الممكن أن نرى بعض الأوساخ أو القمامة ملقاة في الشوارع أو تتسرب من صفائح القمامة التي تضيق عن محتوياتها، إلا أننا لا نرى بدايتها ونهايتها جميعًا".&

ويخلص إلى أن النفايات هي التمثيل الموضوعي والمادي للخوف من أن يتمكن التاريخ، ممثلًا في الذاكرة الذاتية، من السيطرة على الحاضر والمستقبل، ويكون عندئذ محتمًا - مثله مثل الأجساد التي نقف فيها – بحيث يمكننا أن نكبت الماضي، لكننا لا نستطيع في النهاية أن نتفاداه.

ونتيجة لمقاومة هذه الضرورة، يصبح الولع الشديد بالنظام مبدأ شاي في الحياة. فحياته، مثلها مثل الماضي الذي يدور في دائرته باستمرار محاولًا إعادة ترتيبه بطرائق تجعل الحاضر (وليس الغريب) حقيقيًا يمكن أن يؤخذ على أنه يمثل المعرفة المؤلمة بأن الوعي بالذات قد يكون وحيدًا، لكنه يفصح عن شك يثقل العقل الحديث.