في كتاب "أم مثالية" لكاتري سكالا، تظهر مدينة تريستي بوتقة انصهار الثقافات. ومع مزيج من الكتابات التاريخية الماضية عنها، تبدأ هذه المدينة وتنهي قصة تربط ببراعة تراث الصدمات الجماعية والفردية.

إيلاف من بيروت: في الثالث من نوفمبر 1918، رست السفينة الحربية "أوداس" في ميناء تريستي، لتطالب بحق إيطاليا في الميناء الحر العالمي للإمبراطورية النمساوية المجرية المحتضرة.

كانت المدينة الأسطورية التي تقع على ساحل البحر الأدرياتيكي في شرق مدينة البندقية، وبجوار الحدود مع سلوفينيا، تجذب الفنانين والغزاة. فقد قامت شركات الشحن والتأمين، من مقارها الرئيسة على الموانئ، بربط الإمبراطورية بالعالم. فتوافد إليها المنفيون الأدبيون والبدو الرحل، وجعلوا تريستي ملكًا لهم.

من سيسمعني
كتب جيمس جويس الذي علّم الإنكليزية في تريستي قبل الحرب العالمية الأولى، كتابًا بعنوان "لوحة للفنان في شبابه"، كما ألّف "ناس من دبلن" وأجزاء من "يوليسيس".

كان صديقه وتلميذه إيتالو سفيفو، وهو مدير يهودي لشركة عائلية تبيع الدهان، واسمه الحقيقي إيتوري شميتز، قد أطلق روايته الكلاسيكية "ضمير زينو" في المدينة البرجوازية المتسامحة التي يحبها.

على المنحدرات المجاورة في عام 1912، وأثناء إقامة الشاعر صاحب الرؤية راينر ماريا ريلكه مع راعيته الأرستقراطية في قلعة دوينو، سمع صوتًا يتساءل: "إذا بكيت، فمن سيسمعني من الملائكة؟".

هكذا، بقلم ريلكه، ولدت "مرثيات دوينو" (Duino Elegies) التي غيّرت مسار الشعر الأوروبي. وعاش الشاعر الإيطالي العظيم أومبرتو سابا في هذه المدينة، حيث ألّف كتبًا وأدار مكتبة.

أما داسا درنديك، الروائية الكرواتية البارزة التي توفيت في وقت سابق من هذا العام، فاستكشفت أكثر فصولها ظلمة في زمن الحرب في روايتها "تريستي".

قناع جمال للعنف
الآن، انضمت كاتري سكالا - وهي مؤلفة أميركية بريطانية أصولها من فيينا - إلى هذه المجموعة من المشاهير المغرومين بتريستي، مع روايتها الأولى "أم مثالية" A Perfect Mother (هيكاري برس؛ مكوّنة&من 224 صفحة؛ 15 جنيه إسترليني).

إن بوتقة انصهار الثقافات هذه مع مزيج من الكتابات التاريخية الماضية عنها، تبدأ وتنهي قصة تربط ببراعة تراث الصدمات الجماعية والفردية.

يبحث بطل رواية سكالا جاكوب، وهو صحافي مطلّق من لندن في منتصف عمره، يذهب في بحث عن جدّه الأكبر من أصل يهودي فييني، الذي اختفى في تريستي في ثلاثينيات القرن الماضي.

بينما يسعى إلى "فتح جراح أسلافه"، يلتقي جاكوب امرأة إنكليزية جذّابة ومضطربة، شارلوت، ويقع في حبّها. المآسي نصف المدفونة في حياتها - طفولة قاسية، ووفاة طفلها بشكل مفاجئ – تتوافق مع مزيج البهجة والرعب في مدينة تريستي.

إن الأفراد كأوطانهم، يحملون ندوبًا لم تختف كليًا من "تقلبات السلطة والتشرد". فالمدن، حتى الجميلة والمثقفة، هي "كالعائلات، كالأمم، كالعشاق، ليست مجرد أسطح صلبة"، بل تكمن فيها دومًا أسرار وقصص.

تنقل سكالا السحر المظلل لهذه الأحجار التي تخبّئ قصصًا كثيرة. إن مدينة تريستي التي تتكلّم سكالا عنها، ليست فكرة تجريدية، لكنّها تصبح استعارة قوية لقناع الجمال الذي قد يرتديه العنف.

ملاذ للهائمين
وصفت كاتبة الرحلات جان موريس تريستي بـ "رأس المال الطبيعي" لـ "أمة اللا مكان"، التي اعتبرتها ملاذًا للأرواح الهائمة.&
كانت المدينة الهجينة "متناقضة عرقيًا، ومشوشة تاريخيًا"، وانتقلت من أيدي النمسا إلى إيطاليا، ثم سقطت تحت السيطرة الألمانية واليوغوسلافية والحلفاء، ثم عادت في عام 1954 إلى إيطاليا.

كما قالت موريس، فإنّ "المزيج السهل بين الأعراق" الذي كان في عهد هابسبورغ، تلاشى. وشملت مرحلة وجيزة من القيادة اليوغوسلافية في العام 1945 مذابح بقيت موضع خلاف. وما زالت الأقليات السلافية الكبيرة تعيش في المنطقة.

لا يمكن لرواية واحدة أن تسرد هذا الماضي. ومع ذلك، فبعد قرن من إرساء "أوداس"، تبقى فكرة "تريستي" الحرة والمفتوحة فكرة مغرية. وتحثّ السيدة موريس مواطني "اللا مكان" على التوحّد، وتضيف: "انضموا إليّ في تريستي، عاصمتكم".

وكما تظهر رواية سكالا بذكاء، فإن الواقع لا يتطابق دائمًا مع المثاليات. في هذه الأيام، تصوّت منطقة تريستي بقوة لمصلحة رابطة الشمال الإيطالية المناهضة للمهاجرين. وفي الوقت الذي كان فيه السياسيون يسخرون من "مواطني اللا مكان"، لا تزال المنطقة الحالمة التي أطلق عليها جويس اسم "يوروبيكولا" ـ أي أوروبا المصغرة ـ تلقي تعويذة حزن.
&
&
أعدّت إيلاف هذا التقرير عن "إكونومست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/books-and-arts/2018/08/23/the-beauty-horror-and-stories-of-trieste