تُعتبر "الأساطير الدينية" واحدةً من منتجات العقل البشري القديم. ولأنها اليوم تقبع في لاوعينا، فإنه يمكننا أخذ عيّنات منها وتفحُّصها تحت مجهر "التحليل النفسي الإنساني" بغية فهم أكبر لتطوّر الصلة ما بين الإنسان والخالق، وبالتالي ما بين الطفل وأحد والديه (أبيه) غير محاولين تهميش دور الأم هنا، بل الإضاءة على دور الأب المحوريّ الذي يراه البعض ثانويّاً في الوصول إلى البلوغ والنضج لدى الطفل.
نقرأ في "العهد القديم" بأن الربّ يُحرّم على آدم تناول تفاحة المعرفة. وعندما يعصى آدم أوامره، بإغواء من الأفعى، يُنزله الربُّ إلى الأرض عقاباً له حارماً إيَّاه من "الفردوس"، لاصقاً بحواء تهمة الإغواء والخبث مدى الحياة!
ولا يفوتنا هنا القول بأن آدم الافتراضيّ -كما يُقدَّم لنا- لا يتجاوز عمره العقلي 6 سنوات.
وهذا التسلّط الرباني غايته منع آدم من الحصول على الحكمة الكافية لكي لا يتساوى مع خالقه، ومنعه من تناول التفاحة الثانية التي تحمل الخلود في الأسطورة.
وفي معرض آخر، يكون الربُّ مستاءً جداً مما قام بخلقه من كائنات على الأرض، لذلك يحاول التخلّص منها جميعها بإغراقها في الطوفان! عندها يقوم نوح بشيء من التمرّد والثورة محاولاً إنقاذ ما أمكنه من مخلوقات في سفينته، مخالفاً بذلك أوامر الربّ!
ومن خلال هذا التمرُّد خُلِقَ نوعٌ جديدٌ من الرابط الصلويّ بين الإنسان والربّ يكون فيه الربّ متفهّماً، وأهم قوانين هذه الصلة المستجدة أن على الربّ محبّة الإنسان بقدر ما على الإنسان طاعة الربّ. وبذلك حلّ الجانب الإنساني في الصلة محلّ التسلّط واستُبدلتْ ثقافة التهديد والوعيد بثقافة الإقناع ومخاطبة العقل... وهذه هي أسس قواعد التربية الحديثة.
هذا التحوّل الجذري الذي أصاب هذه الصلة قد انتقل بالمشكلة الأزلية (علاقة الأب بالإبن) إلى مكان آخر. فالأب لم يعد متسلّطاً ولا مرعباً ولا منتقماً، لكنه تحوّل إلى رمز ذهني مطلق شديد التأثير والاستقطاب.
إن عقل الإنسان القديم المخترع للأسطورة هو ذاته اليوم لاشعورنا الجمعي. فالأب ما زال له في لاوعي الطفل نفس حضور الربّ، فهو الشمس والنور والجمال الكلّي والخير والعدل المطلق. ومن هنا تأتي خطورة وظيفة الأب التربوية في الحفاظ على صورته الرمزيّة بعيدة عن أي خدش، وبالمقابل ممارسته لحياته الطبيعية كإنسان. لذلك فإن مركزيته، كـ أنا أعلى دائم في عقل الطفل، دائمة التهديد بالزوال. لأن الأب كلما أخفق في امتحان (وهو الكامل والمطلق في عينيّ الطفل) زاد الحصر والقلق لدى هذا الطفل، وفي نهاية المطاف سوف يبحث عن بدائل جزئية أو كلية يهجر من خلالها أباه باحثاً عن قدوة ومثل أعلى جديد.
إن مسألة عبور الطفل إلى ضفة البلوغ بمساعدة أبيه وأمه أو أحد أقاربه كخاله مثلاً (صورة مخففة للأنا الأعلى)، لا تتوقف عند التخلّص من شبح أوديب، ولا فقط بالاقتداء بشخص الأب، بل في تقليده وتجاوزه في عمله. فالمراهقة هي خيط رفيع يفصل بين طفل
لا مبالٍ واتّكاليّ ومدلَّل وبين طفل صار بالغاً فجأةً يُطلَب منه كل شيء.
هذا الفارق الشاسع لا نلحظه عند المجتمعات القديمة التي كانت تعيش على الرعي والغزو، لكننا نراه جلياً في الثقافة الحديثة.
فالبدائي الذي كان يعيش على الصيد، كان يشتري لابنه الصغير قوساً صغيرةً، وبين الحين والآخر يأخذه معه إلى رحلات صيده، ولذلك فبلوغ الطفل يعني قدرته على اصطياد غزال أو ثور، وتالياً يأتي البلوغ النفسي موازياً للبلوغ العملي بانزلاق تدريجي. وهذا ما لا يحصل في الحياة الراهنة المليئة بالتناقضات، حيث يقفز الطفل من البرودة التامة إلى الحرارة العالية، إن صحَّ التعبير، ومن دون مقدّمات.