من معرض إلى كتاب: 

عنتر وعبلة في عصر السيلفي؟... ِلمً لا!

محمد الحمامصي 

ماذا لو بعث عنتر وعبلة من التاريخ ليولدان في عصرنا هذا... سيكون الأمر كاريكاتوريًا حتمًا. 17 لوحة تحاول تجسيد هذا الأمر لنرى الثنائي العائق الأشهر في تراثنا يمتلكان هواتف جوالة حسابات على مواقع التواصل ويلتقطان السيلفي.

إيلاف: انطلاقًا من معرض "عنتر وعبلة من ساحة الكاريكاتور"، والمكوَّن من أربعين لوحة، للفنانين السوري حسن إدلبي والمغربية وفاء شرف قبل نصف عام إلى واحة كتاب "عنتر وعبلة في عصر السيلفي" من رسومهما ونص الكاتبة سناء شبّابي، والذي صدر أخيرًا من منشورات دار المؤلف في بيروت والإمارات، إلى باحة القارئ باللون والكلمة. 

بين الحداثة والتراث
هكذا يمكن إيجاز مسيرة مجموعة من اللوحات الفنية الكاريكاتورية التي لفتت الأنظار بفكرتها وجاذبية التعبير بالألوان والخطوط، ومنح كل من الثنائي العشقي: عنتر وعبلة إقامة مباشرة في عالم اليوم، وقد تنوعت هواياتهما أبعد من عالم الصحراء في الجزيرة التي ينتميان إليها، تأكيدًا على أنها يمتلكان مثل هذا الحق، وبالريشة المبدعة لكل من حسن إدلبي وزخرفات وفاء شرف، في المقابل تأتي كلمات سناء شبابي معمّقة أثر اللون في صفحات تترى، وضمن كتاب جميل: تكوينًا وإخراجًا.

يؤكد ظهور عنتر وعبلة كاريكاتوريًا ومرفقين بنص يضيئ ويعمّق الأثر الفني للوحة الكاريكاتورية يؤكد على ذيوع صيت الفكرة التي اشتغل عليها الفنان، والاهتمام بعوالم عنتر وعبلة، وهما يتنقلان بين هوايات كثيرة: من كرة القدم، إلى الكومبيوتر، ومن الأخير إلى النارجيلة، فلعب الشطرنج، ما عدا المميّز لهما: الفروسية وصلتها بالعشق، فالفروسية فجّرت عشق عبلة لعنترة، هذا العشق الذي زاد في فروسية عنترة، وتحويل الصحراء إلى ساح لها، وها هي ساح أخرى لهما، إنما وقد انخرطا في لعبة العصر ومفارقات العلاقة وطرافة التلوين والتعبير.

ثمة ما يؤكد أهمية الكتاب وما يشدّد على هذه الأهمية ضمنًا من خلال كلمة "الإهداء" وهي "إلى حماة الذاكرة الإنسانية، الذين يقدرون التراث بما يستحق، وقد جعلوا منه طفولتهم المتجددة ليكون الحاضر رشدهم المعهود، والمستقبل اكتمال نضجهم، وقد خرجوا إلى العالم بثقة محسوبة الجانب". أي إن الكتاب بمقدار ما يكون مجالًا للاستئناس، هو دعوة إلى تفكير من نوع آخر، تراثي داخل في الحداثي.

حكايات مرسومة
توّج مدخل الكتاب بكلمات لعدد من المبدعين، الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق، والشاعر محمد على شمس الدين والشاعر جودت فخر الدين، حيث قالت الكاتبة غادة السمان "حسن إدلبي واحد من الرسامين العرب النادرين الذين يمكن اعتبارهم روادًا في هذا الحقل...). 

وقال الباحث السوري إبراهيم محمود: "أحسب أن يد حسن الفنية بطابعها الأكاديمي... ويد زوجته المغربية، وهي بمتخيلها الشعبي، وروح الجغرافيا المغربية لها بدعتها في جعل هندسة اللوحة أكثر طراوة وحلاوة وطلاوة وضراوة في الأثر..).

أما الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق فأشارت إلى أن الفنان إدلبي، الذي كان يصوغ حكايات غاية في الطرافة بريشته الذكية، عرفته في أواخر التسعينيات، وله تاريخ طويل وجميل مع النصوص المكتوبة شعرًا ونثرًا.. وها هي لوحاته، والتي تحمل إلى جانب إمضاءة ريشته التليدة الأثر، إمضاءة زوجته الفنانة وفاء شرف، تستقطب أهل الحرف، وما في ذلك من جمالية علاقة وتكامل، وحتى تحدّ بالنسبة إلى الكلمة، إذ تناظر المرسوم بالخط واللون.

تحرير التاريخ
الكاتبة سناء شبابي سعت على طريقتها إلى ترجمة ما رأته الأنسب في التعبير، حيث يتداخل النص واللوحة، سوى أن اللوحة هي التي تختبر ذكاء النص، وتمنحه جواز مرور إلى القارئ، بمقدار ما تغذّي في الروح إرادة الربط والمقارنة والتحليل.

كما في إضاءة لوحة تمثّل عنتر وعبلة وهما يمتطيان الحصان في زركشة لا تخفي جمالية الإخراج الحداثي "ها هو عنترة بن شداد يتبختر على ظهر حصانه الأبجر وخلفه عبلة تركا الصحراء من بوابة التاريخ، ووصلا إلى مدينة تتجلى فيها أحدث مظاهر العمران والتكنولوجيا.. عالم ليس عالمهما، وعليهما أن ينجحا في اختبار الانتساب إليه، أو عليهما الخروج منه، غير أن الفن يحرر التاريخ من مراحله، كما يحرر الجغرافيا من بيئاتها في هيئات مبتدعة، كما هي صنعة حسن ووفاء، وتبقى المفارقات لغة محفّزة على قراءة الأثر وتحولاته في النفوس، حيث لكل عصر كلامه ومقامه وهندامه، كما في لوحة يظهر فيها عنترة يحمل حزمة سيوف خلاف المتعارف عليه، وحصانه "يضحك" مما هو عليه، ومعه عبلة "قطعا مسافة، وهما يكتشفان باهتمام الحضارة، ويتأملان كيف تغيرت أزياء الناس، والطرقات ووسائل النقل، والمنازل..".

وفي عالم المدينة تكون أجواء مختلفة، كما تكون العلاقات مختلفة، وعلى الزوجين الصحراويين أن يقبلا بشروط الضيافة، أو يتحررا من الحالة التي كانا يعرَفان بها، أن يتكيفا مع عالم المدينة، ويتعرفا إليها، كما في المقهى "سأل عنترة عبلة: هل تمانعين من الاستراحة في أحد المقاهي؟، فطلبت عبلة منه أن يمهلها بعض الوقت لتسرّح شعرها..".

ضرورات المدنية
لعله تعليق جميل على لقطة فنية مبتكرة جميلة، إذ إن تسريحة الشعر من ملازمات عالم المدينة، وهو سافر، كما هي المدينة تحديدًا، وهي زينة أخرى ومرئية في المقابل، وعبلة تدرك هذه الخاصية في الاهتمام بالجسد وزخرفته.

ثمة ما يربطهما بعالم المدينة أكثر. فالمدينة لا تكون واسعة أو كبيرة فقط، وإنما تضم بشرًا لا يعرف بعضهم بعضًا كما هي حال القرية، أو كما حال القبيلة ومضاربها في بقعة صحراوية، والاتصال صعب، وبالتالي تغدو الحاجة إلى استعمال الهاتف "الذكي" أو الموبايل من الضرورات القصوى، وهو إجراء آخر يطلب التكيّف معه "بعد ذلك، توقفا أمام محل لبيع الهواتف الذكية، وراقبا أحد الشبّان يستعمل الهاتف، ويلتقط لنفسه الصور، اختارت عبلة هاتفًا، واشترت معه عصا تثبت عليه الهاتف..".

المقطع قصصي، ولو أنه قرئ بمفرده لبرز مستقلًا مؤكدًا فاعلية القص الأكيدة في بنيانه، ولكنه في الكتاب هذا، يبقى شديد الارتباط والانتساب إلى عالم اللوحة، وليس العكس، أي إن النص لحظة قراءته، يحيل القارئ مباشرة إلى فعل اللوحة ذات الصلة، وكيف أمكن الوصل بينهما، أي إن النص في ذمة اللوحة، ويتوسل ثناء منها أيضًا.

تداخل أزمنة
ذلك ما يمكن إظهاره في لوحة يتغزل فيها عنترة بعبلة، وهو يحمل طنبورًا، وعبلة وردة حمراء، ودائمًا يكون الحصان شاهدًا على اللعبة الفنية، وهو الملازِم لهما، لكونه من متممات اللعبة طبعًا، فنقرأ ما يفيد "قال عنترة يتغزل بعبلة: لو سافرنا الآن إلى العصر الأندلسي، لكنت عزفت تحت نافذتك كما كان يفعل مغني "التروبادور". 

تلك حالة تثاقف أو تداخل بين أعصر مختلفة، وهي من حيث المبدأ لعبة مشروعة، لا بل وقويمة ودالة على مدى نباهة الريشة الفنية من جهة، وعلى رحابة متخيل شبابي في المقابل، وما في ذلك من اندماج بمتعة اللعبة البصرية وذائقتها. هذا ما نلمحه في طلب لعنترة من رسام في مقهى، حيث تشمخ لوحة دالة "رأى عنترة رسامًا في زاوية المقهى يرسم وجه أحد الزبائن، فاقترب من الرسام، واستأذن في رسم عبلة، وافق الرسام، وطلب من عبلة أن تجلس قبالته ليرسمها... كتم عنترة غيظه، ودبَّت الغيرة في صدره...، ليجري حوار بين عنترة والرسام، حيث يرسم عنترة نفسه عبلة. ولتعليق الرسام مغزى، إذ يتساءل عن صلة عبلة بالحصان فـ "عبلة هي الحصان أم الحصان هو عبلة ؟...الخ".

إنه الأفق اللامحدود لفن الكاريكاتور، لا بل هو السياق اللامتناهي للعبة الفن عمومًا، وللكاريكاتور فيه نصيب وافر، تبعًا لموهبة الفنان ونوعية متخيله، وقابلية هضم العالم لديه وطرحه تلوينًا وتكوينًا.

ربما يكون ذلك شهادة عيان دامغة على أن الكتاب سيكون جليس كثيرين ممن يدركون توأم العلاقة الأثيرة بين الكلمة واللون، ومتعتهما، كتاب يسهل اصطحابه وتصفحه والمزاوية بين العين الناظرة والقارئة، من المكتب إلى البيت، وداخل البيت، وفي الحديقة، وفي الطائرة، وفي الحديقة، وفي استراحة معينة، وفي نطاق البحث والاستقصاء.. وفي كل ذلك يغدو الكتاب كتاب الجميع ولا أحد في المقابل.