&

«العبقري هو من يحلم، إحلمْ قدر ما تستطيع أن تحلم، وكلما حاولت جاهداً أن تحلم، كلما تحقق الحلم أسرع» كوروساوا (الحلم هو العبقرية)

كنت دائماً أشعر على نحو ما أن تاركوفسكي هو بمثابة أخي الأصغر

بعيداً عن دوامات هوليوود ووسط فورة سينمائية حداثية تخطت أفلام ستينات القرن الماضي أقام اثنان من أبرز دعاتها صداقة عميقة وحميمة هما أندريه تاركوفسكي وأكيرا كوروساوا. على الرغم من أن كلاهما يشغل المقام ذاته في حقل الإبداع إلا إن حياتهما وأفلامهما، على حد سواء، لم تجمعها الكثير من القواسم المشتركة. كوروساوا، الأكبر سناً، أو الشقيق الروحي الأكبر، كما يحب أن يسميه تاركوفسكي، شرع في رحلته الفنية الطويلة في وقت مبكر من حياته واختتمها في وقت متأخر، في حين تاركوفسكي، الشقيق الأصغر سناً،، بدأ مشواره الفني متأخراً وغادرنا مبكراً، إلا إن الإثنان معاً أتحفانا بأروع وأعذب الأفلام: كوروساوا بأفلامه، يوجيمبو، السامي والوضيع، راشامون، اللحية الحمراء، دوديسكادن درسو أوزالا (الفيلم الوحيد لكوروساوا الذي كان انتاجه مشتركاً بين اليابان والسوفييت)، وتاركوفسكي بأفلامه، طفولة إيفان، أندريه روبولوف، سولاريس، المرآة، ستالكر، الحنين، والتضحية.
اليوم وبعد رحيلهما لا بأس أن نستذكر تلك العلاقة التي اتسمت بالمحبة والاعجاب المتبادلين بينهما من خلال ما دّونه أكيرا كوروساوا عن إعجابه بتاركوفسكي وفيلمه «سولاريس» في كتابه الموسوم (الحلم هو العبقرية) الذي تم نشره عام ١٩٩٨، أي بعد عام من وفاته.&علي كامل

&

***
«كان ينظر إليَّ دائماً بعينين لامعتين مشرقتين. لا أستطيع أن أنسى إشراقة وجهه الودود أبداً. لقد كنا متفقين على العديد من الأشياء بشأن الحياة والأفلام لكننا كنا مختلفين جداً فيما يتعلق بالجانب الشخصي، فقد كان هو شاعراً أما أنا فلم أكن كذلك». كوروساوا (الحلم هو العبقرية)
التقيت بتاركوفسكي لأول مرة في زيارتي الأولى لروسيا خلال مأدبة غداء أقامتها إدارة ستوديوهات موسفيلم ترحيباً بي. كان تاركوفسكي حينها شاباً صغيراً نحيل الجسد بدا لي واهياً بعض الشيء لكن في ذات الوقت ذكي، فطن، وحساس بشكل استثنائي. لقد ذكرّني إلى حد ما بمتورو تاكميتسو، لا أعلم لماذا. (*) فجاء بعد لحظات قليلة من اللقاء استأذن مني قائلاً: «اعذرني، لا زال لدي عمل الآن عليَّ إنجازه» واختفى.
وبعد وقت قصير سمعنا دوي انفجار كبير داخل الأستديو اهتزت له النوافذ الزجاجية لقاعة تناول الطعام. حين رآني مدير استديوهات موسفيلم وقد أُخذت على حين غرّة بما حدث قال لي بابتسامة ذات مغزى:«أنت تعلم أن حرباً عالمية ثالثة لم تندلع بعد. إنه تاركوفسكي قد أطلق صاروخه للتو. ومع ذلك، فإن فيلمه سيشعل حرباً عالمية أخرى بالنسبة لي». بهذه الطريقة علمت أن تاركوفسكي كان يقوم بتصوير فيلمه سولاريس.

بعد انتهاء حفل الغداء قمت بزيارة لموقع تصوير الفيلم فرأيت بقايا صاروخ محترق في ركن من أركان محطة فضائية كبيرة. كان ديكور قاعدة الأقمار الصناعية تلك ضخماً للغاية وقد كلّف كما يبدو مبلغاً كبيراً لأن مواده كانت مصنوعة من سبائك الألمنيوم السميك وقد كانت تلتمع بضياءها الفضي المعدني البارد.
أخذني تاركوفسكي في جولة حول موقع تصوير الفيلم مبتهجاً مثل صبي يافع يُمنح فرصة ذهبية ليُري شخص ما لعبته المفضلة. كان معنا المخرج سيرجي بوندارتشوك الذي سأل تاركوفسكي حينها عن تكلفة ديكورات قاعدة المحطة الفضائية، وحين أجاب تاركوفسكي فغر بوندارتشوك فمه وعينيه بدهشة واستغراب. كانت التكلفة ستمائة مليون ين ياباني تقريباً، وإنفاق مبلغ باهظ كهذا يتطلب موهبة وجهداً كبيرين بالطبع.
كنت أفكر مع نفسي وأنا أحدق بتاركوفسكي عن كثب وهو يسير أمامي يُريني الموقع بحماسة بأن هذه مهمة جبارة فعلاً. حينها فقط أدركت تماماً ما كان يعنيه رئيس ستوديوهات موسفيلم بقوله أن فيلم سولاريس هو بمثابة حرب عالمية بالنسبة له.
لقد شاهدت الفيلم للمرة الأولى في وقت متأخر من الليل في غرفة العرض في ستوديو موسفيلم وسرعان ما أحسست بوجع في قلبي وشوق كبير للعودة إلى الأرض فوراً وبأسرع وقت. لقد كانت هذه الأفكار والأحاسيس تراودني جيئة وذهاب وأنا أحدّق في الشاشة.

لا بد أن هناك العديد من الأمور لا تزال مجهولة بالنسبة للبشرية عن هذا العالم: غياهب الكون التي ينبغي على الإنسان التعمق في بحثها، الزوار الغرباء في قاعدة الأقمار الصناعية، الزمن وهو يمضي سريعاً في الاتجاه المعاكس، من الموت إلى الحياة، الاحساس المؤثر بالتحليق في الهواء بطريقة غريبة، المنزل الذي يتصوره الطبيب النفسي في محطة الأقمار الصناعية رطب تغمره المياه.
إنها مَشاهد مُّعذبة لروح المتفرج لأنها تفّجر ينابيع الحنين الذي لا يُقاوَم إلى الطبيعة الأم والشبيه بالحنين إلى الوطن. بدون هذه المشاهد الطويلة التي تعكس فتنة الطبيعة على الأرض لا يمكنك جعل المتفرج يفكر بوجود منفذ لسجناء قاعدة الأقمار الصناعية تلك.
ثمة من يتذمر من طول الفيلم غير الاعتيادي لكنني أرى الأمر معكوساً تماماً. لقد أحس البعض بطول مشاهد وصف الطبيعة في مستهل الفيلم دون أن يسألوا أنفسهم الهدف من ذلك. إن هذا الاستغراق في تصوير الطبيعة آتٍ من تلك الطبقات المخزونة في الذاكرة من جمال وشوق إلى الأرض. إنها تحية وداع لهذه الطبيعة الدنيوية وهي تغمر نفسها عميقاً في غياهب
الأفكار حين يتم إرسال إنسان في صاروخ ينطلق من قاعدة المحطة الفضائية إلى كوكب يدعى سولاريس. استطاع الفيلم أن يثير مشاعر الخوف والوحشة في نفوسنا حقاً، وبدون ذلك لن يكون فيلم الخيال العلمي سوى مجرد نزوة عابرة. كل لقطة من هذا الفيلم تشهد على المواهب المبهرة الكامنة في أعماق تاركوفسكي.
لقد جعل المتفرج يحس بمثل هذا الشعور وهذه الحقيقة البسيطة وحدها أظهرت لنا أنه ليس فيلم عادي مطلقاً. فهو، على نحو ما، يوقظ الخوف الخالص من غفوته في نفوسنا. وكل ذلك قد تحقق بفضل الرؤية العميقة والإنسانية لتاركوفسكي.
إن ما يثير انتباهي وإعجابي في أفلامه هو تميزه في توظيف عنصر الماء على نحو خاص، لا سيما في فيلميه «سولاريس» و«التضحية»، فقد استطاع بطريقة ما تصوير مستنقع أو بركة ماء بأسلوب يتسم بالشفافية متيحاً لنا من خلاله إمكانية رؤية أقصى ما في القاع. معروف بالطبع أن تصوير لقطة كهذه بطريقة عادية ستُظهر لك السماء معكوسة على سطح الماء بالتأكيد وبالتالي ستحجب عنا رؤية ما في الأعماق. لقد
أردت أنا أيضاً أن أصور الماء بنفس الطريقة التي قام بها تاركوفسكي في أحد المشاهد من فيلمي «قرية الطواحين المائية في الأحلام». هل يمكنكم تخيل ما فعلناه لتحقيق ذلك؟
لقد قمنا بإعداد رافعات ضخمة ترتفع نحو السماء وذلك لوضع قطعة قماش سوداء كبيرة لمنع انعكاس السماء على سطح الماء. بهذه الطريقة فقط استطعنا رؤية القاع.
لقد كان طاقم محطة الفضاء في الفيلم يعانون من الشوق والحنين إلى كوكب الأرض. وهذا هو السبب الذي جعلنا نرى مشاهد الطبيعة على الأرض طويلة للغاية لا سيما مشهد الأعشاب المائية التي تتراقص بهدوء في النهر. هذا المشهد لوحده يدفع المرء حقاً إلى الشوق في العودة إلى الأرض.
أتذكر أن شركة توزيع الفيلم اليابانية طلبت مني حينها حذف جزء من اللقطات الطويلة للطبيعة تلك لكنني أصريت على إبقائها لأنقذ الفيلم لأنني لو فعلت ذلك فسيصبح الفيلم بدون مغزى. وهذا دليل على إن ثمة شيئاً ما عسير للفهم بعض الشيء في أفلامه، إلا إنني على يقين تام أن ذلك يعود إلى سعة مخيلته ونفاذ فكره لإن أفلامه مختلفة إلى حد ما عن بقية الأفلام العادية سهلة الفهم.
عمل تاركوفسكي فيلماً آخر بعد سولاريس بعنوان «المرآة»، عالج فيه ذكريات طفولته العزيزة ومرة أخرى قال الكثيرون أنه فيلم صعب للغاية. نعم، قد يبدو بلمحة سريعة أنه يفتقر إلى التطور المنطقي في أسلوب سرد الحكاية لكن علينا أن نتذكر بأن من المتعذر أن تنتظم ذكريات الطفولة نفسها في تسلسل منطقي ثابت. إنها سلسلة غريبة من شظايا صور مهشمة للذاكرة المبكرة يمكن أن تنطوي على شاعرية عن تلك المرحلة. إن مجرد اقتناع المشاهد بمصداقية الفيلم سيجد بأنه الأكثر يسراً على الفهم. وتاركوفسكي لا يجيب بالطبع على أسئلة مثل هذه على الاطلاق. لقد سمعت أن والده شاعر شهير لعل هذا هو السبب كما أعتقد وراء موهبته الشعرية العظيمة.
موقفه الصادق يجعلني أعتقد بأن لديه طاقات مدهشة مخزونة للمستقبل، أما المخرجون الذين هم على استعداد لشرح كل شيء في فيلمهم فلن يكون ثمة مستقبل مشرق لهم على الأطلاق. كان تاركوفسكي يجلس في ركن من أركان الأستوديو، وحين انتهى عرض الفيلم نهض وهو يتطلّع نحوي كما لو أنه شعر بالخوف. قلت له:«رائع يا أندريه. لقد جعلني الفيلم أشعر بالخوف». فابتسم بخجل ولكن بسعادة. جلسنا بعد عرض الفيلم نحتسي الفودكا في مطعم معهد السينما، وقد شرب تاركوفسكي الكثير من الفودكا، وهو الذي لا يشرب عادة كما عرفت، ثم نهض من مكانه وذهب نحو مكبر الصوت الذي كان يصدح في أرجاء المطعم وأغلقه ثم شرع يغني كلمات ثيمة السموراي من فيلمي «الساموراي السبعة» بأعلى صوته. فلم أستطع المقاومة فنهضت أنا الآخر وانضممت إليه كما لو أنني منافس له لأنني كنت سعيد جداً في تلك اللحظة بأن أجد نفسي على الأرض وليس في كوكب آخر.
لقد أخبرني في زيارته إلى اليابان بأنه كان يشاهد فيلمي (الساموراي السبعة) على الدوام قبل تصوير أي فيلمه يشرع في إخراجه. وقد أخبرته أنا بدوري صادقاً بأنني كنت أشاهد فيلمه (أندريه روبولوف) قبل أن أبدأ في تصوير أي فيلم لي.
لقد كان تاركوفسكي إنساناً ودوداً وساحراً حقاً. سمعت أنه كان يرقد في المستشفى في باريس عندما كنت حينها في أوروبا، وقد كنت متلهفاً لرؤيته وحاولت بيأس معرفة المستشفى التي يرقد فيها للاستفسار عن صحته، لكنني غادرت دون ذلك للأسف الشديد بسبب موعد مغادرة الطائرة إلى اليابان. وبعد فترة وجيزة سمعت برحيله. لقد كنت أشعر دائماً على نحو ما أن تاركوفسكي هو بمثابة أخي الأصغر.

* (تورو تاكميتسو: مؤلف موسيقي ياباني ومنظرّ في علم الجمال ونظرية الموسيقى «١٩٣٠-١٩٩٦»)