تونس ــــ نورة البدوي

فيما ندخل أجواء &مسرحية ” تلاشي” تنطفئ الأضواء ليبقى ضوء خافت يسلط مركزية إضاءته على عمار اللطيفي ؛ حيث يبدأ الأخير بسرد حكايته مع المرض الذي أصاب عينيه و يسمى بتلاشي.
تندغم سينوغرافيا الإضاءة بالموسيقى و كأن اللطيفي بهذا الثنائي يخلق جوا لتقريب المسافة بينه و الجمهور & ليبلغنا حكايته و يشاركنا إياها.
&بهذه المكونات يبدأ العرض الذي اختار له اللطيفي بنية درامية تعالقت بين النصي ولحكائي على مستوى الإخراج والتمثيل على حد سواء ليوثق لهذه المونودراما منطلقاً &من الأنا.
يستلهم اللطيفي سرده المسرحي من خلال وضعيته المرضية التي أصابت عينيه فنحن إزاء سيرة ذاتية تستمد كينونتها من كل التفاعلات و الانفعالات بدءا من محيطه العائلي الضيق وصولا الى تواجده في المجتمع. يقول : ” إن هذا العرض المسرحي هو سيرة ذاتية، فلقد تساءلت كثيرا لماذا لا انطلق من حكايتي لإنجاز عرض مسرحي لماذا أذهب للاقتباس و أنا أعيش حالة مرضية ؛ يمكن بتحويلها الى سيرة ذاتية، أن تكون تعبيراً عن حالة فنية على خشبة المسرح”.
سيرة يلعب فيها اللطيفي دور الحكواتي ليسرد لنا بداية حكايته مع مرضه &و هو طالب في الجامعة يدرس لغة روسية سنة 2008 ويغوص الوجع أكثر في أعماقه عند تنقله بين الأطباء في تونس من الجنوب الى الشمال الى الساحل؛ كي يجد في النهاية طبيباً يفسر له نوعية المرض الذي يشتكي منه.” فهو مرض يصاب به كبار السن، وعندما يصاب به الشباب فهي تمثل حالة نادرة ، و أنا حالتي في هذا المرض لم يجد له الاطباء حلا بعد “.
لا يتخذ السرد خطا مستقيما عند اللطيفي فهو يتنقل بهذه المونودراما إلى مواقف متعددة المشاهد مبنية على حرية الحركة و التقسيم &على الطريقة البريختية ليتولد من خلالها خطاب كلي يعكس قضايا اجتماعية يعيش كل تونسي جزءا من أجزائها.
أجزاء قدمها &اللطيفي لنا مسكونة بوجع الوطن، اذ يلقي بتلاشيه الذاتي الى ما يعيشه الوطن من تلاش هو الاخر في عدة مجالات : اقتصادية ثقافية أمنية تعليمية. يطرح مخرجنا عدة أسئلة مباشرة و غير مباشرة؛ يسأل القدر : لماذا اختاره هو &بعينه ليعيش مرافقا لهذا المرض الذي نهايته العدم ” ربما”؟
&يعود بنا اللطيفي الى بيئته البسيطة ينقل صوراً مما تعيشه منطقته من تهميش ، مازجاً ذلك كله بالموسيقى " الغناء " و كأنها خيار دراماتورجي يرسم من خلاله &ملامح المكان الذي نشأ به ، يسرد لنا كيف أصبحت علاقته بالكتب من خلال مرضه فهو أصبح يؤدي عليها مجرد القسم ؛ يرصد لنا كيفية التعامل مع ذوي الحاجيات الخاصة و مدى دعم الدولة لمشاريعهم الثقافية. استفهامات مسكونة بحيرة الأنا المتلاشية المترامية بين الوطن و المواطنة.
تقنيات الاشتغال في عرض اللطيفي:

السخرية السوداء
يعتمد اللطيفي هذا الأسلوب في عرضه المسرحي " تلاشي" فيجمع بين خطابين في بعديهما التراجيدي و الكوميدي بهدف النقد الذي ينطلق من وضعيته المرضية ليشمل فيما بعد نقد المجتمع بمختلف تفاصيله.
معتمداً على نقل وضعيات من واقعنا مشحونة بالسخرية و الهجاء و الهزل و مثيرة للضحك و البكاء في آن ، يحدثنا اللطيفي &في هذا الاطار قائلاً : &” لا أريد أن أكون في منطق الذي يشتكي من حالته المرضية. أردت استخدام هذا الأسلوب من الكوميديا الساخرة الباعثة للضحك و لكن في الآن نفسه باعثة للسؤال عن وضعية بلادنا و عن العلاقات التي أصبحت تربطنا ببعضنا، فالمسرح ليس معنياً بإيجاد الحلول و انما يوقظ فينا ما نعيشه من مشاكل”.
يختزل مخرجنا وضعية الأنا في الآخر من خلال الكوميديا و الحوار و الموقف .. لتشترك كلها في تقديم نظرة جمالية فنية أثث بها الفرجة المسرحية ما يتناسب و مسار عرضه الذي أيقظ فينا كل التناقضات الشعورية؛ كسرده لمواقف مضحكة وساخرة من الذات . فهو أصبح يلقب ب” سي ارنب ” نظرا لشرائه الجزر بصفة مستمرة عله ينقذ نفسه من وحشة المرض ، أو التجاء والدته الى التبارك بالزوايا و اعتمادها للأعشاب من أجل أن يعود بصره كما كان… و غيرها من الحالات و المواقف المضحكة ظاهراً الباعثة للبكاء باطناً.
لقد دعم اللطيفي الاداة التبليغية بالمؤثثات السينوغرافية التي أضافت فرجة مسرحية متكاملة و لعل ابرزها الاضاءة.

دور الاضاءة:
لقد أضافت الإضاءة لغة بصرية في الجو الدرامي الذي قدمه مخرجنا على خشبة المسرح، لتكون خافتة و ساطعة و مظلمة أحيانا و هذا التوظيف لم يكن اعتباطياً بل كان مواكبا لتنقلات اللطيفي من موضوع إلى آخر &و من تساؤل إلى آخر &وفق إدارة ايقاع الضوء التي تترادف كلها في نقل المتفرج الى عوالم و افكار و تساؤلات اللطيفي . ففي مشهد الاضاءة بين ضوء خافت و مظلم يسأل مخرجنا “أشعل و الا أطفى” كي تتضح رؤيته لمرضه ” لا أدري إلى أين يمكن أن يأخذني هذا المرض .. يمكن أن أفقد البصر كليا و يمكن أن يجد الاطباء حلا له.. و لذلك استعملت هذه التقنية من الاضاءة الخافتة و الساطعة في آن واحد.”

الكوريغرافيا:
لم يخف اللطيفي هذا التعبير الدلالي الصامت الصارخ لرقصات الجسد و فق موسيقى من اختياره ، لنجد حركات بين الانعتاق و الخوف بجسد مستقيم و منحني و دائري و كأنه يرسم علاقة بصرية شعورية مع المتفرج من خلال هذه الاداة التعبيرية التي اختزل بها مخرجنا الكلمات ليقدمها بلغة كثيفة موجزة قدمتها حركات الجسد وفق موسيقى تحمل من الايقاعات الواناً متنوعة تنوع نبض الحياة وما يكتنفها من سؤال الحيرة من المستقبل .

ترميم الأنا
تتجمع كل هذه المؤثتثات لتشكل الخطاب المتكامل في مسرحية "تلاشي" و كأنها ترميم للذات في الآخر بعالم منشود يقودنا اليه المسرح ليفتح أبوابه ، بلغة اللطيفي، على كل مشاكلنا الاجتماعية و الاقتصادية و التعليمية و التثقيفية .. و كلها تندرج في علاقات كل منا بمحيطه الداخلي و الخارجي ؛تلك العلاقات الانسانية التي تحتاج هي الأخرى الى ترميم وفق مخرجنا رغم "التلاشي" الذي يعيشه كل منا.
&