يدور حديث مقالنا هذا عن مبانٍ سكنية، مشيدة في العاصمة الدانمركية: كوبنهاغن في ضاحية "بيسببه" Bispebjerg (شمال- غرب العاصمة)، ما بين 2004 -2007، وقد اتسمت لغتها المعمارية على فنية حالمة، كما جاء تنفيذها باسلوب حرفي متقن، وعمل يدوي بجودة عالية. لكن الاهم في كل ذلك ان "المصمم" الرئيس لتلك المباني، لم يكن معمارا محترفا، وانما هو "بيون نيوغو" (1947) Bjørn Nøgaard، الفنان التركيبي/ انستليشين والرسام والنحات والكرافيكي الدانمركي المعروف محليا وعالمياً؛ هو المولود في كوبنهاغن سنة 1947. تخرج "بيون نيوغو" من مدرسة الفن التجريبي سنة 1964، ثم شغل استاذا في الاكاديمية الفنية الملكية ما بين 1985 -94، وهو عضو في جماعة "المعرض الحر". وقد عرضت اعمالة في المتاحف الدانمركية وفي خارج الدانمرك، كما يعود له تصاميم ارضية ساحة "آما تو" Amagetorv في وسط كوبنهاغن، وكذلك عمل رسوم لبساط حائط مزخرف Tapestry للملكة في قاعة قصر "كريستيان بورغ". ويرجع له الفضل في مبادرته لتصميم وتنفيذ المباني السكنية المعروفة باسم "تلال بيسببه" Bispebjerg Bakke مع مكتب "بولسين وهولم" المعماري، وهي المباني، التى نتحدث عنها في هذا المقال.
واود قبل الحديث عن تلك المباني ذات اللغة المعمارية الاستثنائية (وهي فعلا استثنائية وفريدة من نوعها، كما سوف نرى)، ان اشير (في اختصار وعجالة، بالطبع)، الى خصائص المشهد المعماري الدانمركي ابان تلك السنين وما قبلها، السابقة لظهور مجمع "تلال بيسببه".
ظلت الممارسة المعمارية الدانمركية لعقود من السنين مكتفية، وراضية، ومقتنعة بطراز"الرومانسية الوطنية"، الذي انتشر ليس فقط في الدانمرك، وانما في عموم اسكندينافيا. وهو طراز معماري اقرب الى طروحات اسلوب "الفنون والحرف" الانكليزي، الذي شاع عند ملتقى القرن التاسع عشر والعشرين. كانت السمة البارزة لذلك الطراز،كما هو معروف، الاهتمام الزائد بالتفاصيل البنائية والوصول بها لمستويات جد عالية من العمل الحرفي المتقن والبارع. ورغم ظهور نتاج المعمار الحداثي "آنى ياكبسون" (1902 -1971)، وابنيته المميزة والمختلفة، فقد بقي المشهد المعماري المحلي امينا لانتماءاته السابقة وتمسكه في ذائقة كلاسيكية بدت وكأنها "خارج" الزمن الاوربي. ثم حصل تغيير آخر في الخطاب المعماري الدانمركي عندما برز اسم "يورن اوتزن" (1918 -2008)، مصمم "دار اوبرا سدني" الشهيرة، لكن ذلك التغيير ظل تغييراً خجولا ولم تؤثر عمارة اوتزن بقوة او كثيرا في المشهد، لعدة اسباب (ليس هنا مكان طرحها ومناقشتها). بيد ان التغيير الحقيقي بدء بالظهور عندما برز جيل جديد من المعماريين الدانمركيين، والذي سعوا وراء الابتعاد قدر الامكان عن عمارة الذائقة الكلاسيكية المحلية ، والتوجه نحو آفاق جديدة من الحداثة المعمارية، الزاخر بها المشهد المعماري الاوربي. ولعل اعمال "هينينغ لارسن" (1925 -2013)، كاحد اولئك المعماريين المجددين، ولاسيما اعماله خارج الدانمرك (مبنى وزارة الخارجية في الرياض بالسعودية "1980-1984" على وجه الخصوص)، لفتت الانظار نحوه ونحو مقاربته الحداثية، والاهم ان تأثيره التجديدي مع زملائه المعماريين الآخرين بدا واضحا في تنويع منتج الممارسة المعمارية المحلية. وتوجت تلك التغييرات والتحولات عندما برز عدد كبير من المعماريين الشباب الاكفاء والمبدعين في التسعينات وما بعدها، جاعلين من الممارسة المعمارية الدانمركية المحلية لتكون احد اهم مصادر التحول المعماري في اوربا قاطبة. ولعل الشهرة العالمية الواسعة التى يحظى بها المعمار الدانمركي الشاب "بياكي انغلس" (1974) Bjerke Ingels ومكتبة "بيغ" BIG، كاحد <النجوم> العالميين في عمارة ما بعد الحداثة، واعماله المثيرة
المشيدة في بلدان مختلفة، تجسد طبيعة النزعة التجديدية التى تزخر بها الممارسة المعمارية الدانمركية، التى اضافت الكثير والحداثي الى العمارة المحلية، مثلما اغنت ذخيرة المنتج المعماري العالمي، بامثلة تصميمية مبدعة ولافتة.
في مثل تلك الاجواء وعلى ارضية مترعة بالجديد والمبتكر والفريد، سعى "بيون نيوغو" الى "تمكين" فكرته التصميمية التى صاغها ونحتها عام 1997، والداعية الى ايجاد علاقة متينة من العمل المشترك والمثمر ما بين الفنان والمعمار، يحدوه امل قديم، من ان الفن يمكن له ان يؤثر عملياً على البيئة المبنية. وهو بهذا، ينطلق، كما يقول، من الافكار التى روجت لها مدرسة "الباو هوس" الالمانية في عشرينات القرن الماضي، حيث نشد المعماريون والمهندسون والفنانون والحرفيون، وقتذاك، لخلق "منصة عمل مشترك" يسهم بها جميع اصحاب تلك الاختصاصات. وفي هذا الصدد يشير الفنان "نيوغو" باننا <..اعتقدنا وآمنا بفكرة من ان الفن قادر ان يمنح المجتمع مساعدة اكيدة ويسهم في تطوره من خلال خصائصه المعينة،التى ينظر اليها كثر بكونها ترفاً لا لزوم له..". وهو يعود في مكان آخر للتذكير ايضاً، من ان <نموذج المصمم>، الذي يرجع الى عهود ما قبل النهضة (والذي ما فتئ يحظى باحترام كبير من قبل بعض الفنانيين)، هو شخص واحد، يجمع اختصاص ومهن المعمار والنحات والفنان في ذاته! واذا تجاوزنا بعض المسوغات الاخرى التى يحيلنا اليها "بيون نيوغو"، في تبريره لمقترحه "التصميمي"، فاننا يمكننا ان نجد من ان "فكرة" التعاون والتشارك بين اختصاصات متنوعة تضفي قيمة ابداعية استثنائية لناتج تلك الفكرة، فضلا على سعيه وراء تقديم مفهوم "الحرفة" وخصوصية العمل اليدوي، كعنصر اساسي، يسهم في تحقيق اعمال ابداعية تتسم على فنية عالية، قادرة على إظهار استحقاقات جمالية غير مسبوقة!
تضمن مقترح الفنان "بيون نيوغو"، الذي تم تجسيده واقعيا، في ضاحية "بيسببه" ووضع حجر الاساس له في كانون الاول (ديسمبر) سنة 2004، من شريط لسلسلة من الشقق السكنية دعيت بـمبنى "تلال بيسببه"، مشيدة بحرفية متقنة ومن اجود المواد الانشائية المشغولة يدوياً. وجاء شكل كتلة المبنى الخارجية متسماً على "نحتيه" واضحة ومقصودة تمثلت في انسيابية فورماتية، كما انها تارة تعلو بارتفاعها وتارة اخرى تنخفض، تبعا لخصوصية تضاريس الموقع المشيدة فيها تلك المباني، وكذلك جراء قرار تباين اعداد الشقق السكنية في مواقع مختارة من "بلوك" المبنى. وهي بهيئتها المتموجة تشبة الى حد كبير شكل "الثعبان" (وهي احيانا تدعى بالمباني/ الثعبان). وكما اشير قبل قليل، فان حضور "الحرفة" مع "العمل اليدوي"، لهما الدور الاساسي في تنفيذ هذا المبنى، التى اتسمت تفاصيله على اتقان حرفي عال، وتنفيذ انيق، ودقة مكتملة. وصل عدد الشقق في مبنى "تلال بيسببه" الى 135 شقة في كل "بيت" من مجموع 11 بيتا يتألف منها المجمع السكني، مخصصة لحوالي 3500 شخصاً. وتراوحت سعة تلك الشقق مابين 85 مترا مربعاً الى 238 مترا مربعا. وجاءت تلك الشقق بمستوى واحد واحيانا بمستوين وحتى بثلاثة مستويات. كما تميزت احياز غالبية تلك الشقق بعدم وجود فضاءات ذات زوايا قائمة. وقد صممت اطوال فتحات النوافذ فيها من الارضية وحتى مستوى سقفها. وجميع الشقق مزودة في الاقل بشرفة واحدة، وهناك شقق تمتلك اكثر من شرفةـ وكل هذا منح فراغات الشقق فيضاً من الانارة والضياء، بالاضافة الى سرعة تبديل وتغيير الهواء وحركته داخل احياز تلك الشقق، ما يجعل العيش في تلك الفضاءات السكنية يراعي بدرجة كبيرة متطلبات السكن الصحية. واعتبرت كل تلك المميزات التى انطوت عليها عمارة المبنى، من ضمن اهداف اساسية آخرى لاجل تسويغ تصميم وتنفيذ هذا المجمع السكني.

وفي العموم، فان مبنى "تلال بيسببه"، يذهب في اتجاه استيلاد قيم جمالية جديدة، تستند على نوع من تشاركية خاصة تعتمد على جهد المصمم/ الفنان مع ايلاء اهتمام خاص لطبيعة العمل اليدوي الحرفي، والوصول به لمستويات عالية لاجتراح تفاصيل بنائية جد متقنة وبارعة التنفيذ. كما تطمح تلك القيم نحو خلق عمارة عضوية مندمجة مع بيئتها وليست غريبة عنها. واللافت في ملمح عمارة ذلك المجمع وتميزه، تقديم

رؤى معينة في ادراك خاص لمعنى العمارة وتصوّر ماهيتها. ويبقى الامر المهم في كل "سردية" هذة التجربة المؤثرة، اين نضع نوعية هذه المقاربة ضمن تنوع مقاربات الخطاب المعماري المعاصر وتعددها؟ هل يمكن لها ان تكون "نسمة طازجة" من <نوستالوجيا> ماضوية تحلم بصبا شوق، وحنين الى فترة زمنية عتيقة سابقة، ام انها تدعي "أنسنة" الفعالية المعمارية، بجعلها جزءاً من بيئة الموقع وخصوصيته الطبيعية؟ كل ذلك، يبدو متروك للمتلقي، الذي يعتبر ارضاءه، الآن، وفهم مقاصده وتحقيق آماله، من بين الامور الداخلة في دائرة طموح ومقاصد ومرام كثر من المبدعين الساعين لانجاز تلك المقاصد والآمال باساليب مبتكرة ومتنوعة.

في كل الاحوال، يظل مجمع "تلال بيسببه" يمثل احدى التجارب المثيرة في المشهد المعماري الدانمركي وخطابه! □□
معمار وأكاديمي

الصور:

1- مجمع "تلال بيسببه" (2004 – 2007)، كوبنهاغن، المصمم: بيون نيوغو، منظر عام.

2- مجمع "تلال بيسببه" (2004 – 2007)، كوبنهاغن، المصمم: بيون نيوغو، منظر عام.

3- مجمع "تلال بيسببه" (2004 – 2007)، كوبنهاغن، المصمم: بيون نيوغو، تفصيل.

4- مجمع "تلال بيسببه" (2004 – 2007)، كوبنهاغن، المصمم: بيون نيوغو، منظر عام.

5- مجمع "تلال بيسببه" (2004 – 2007)، كوبنهاغن، المصمم: بيون نيوغو، تفصيل.