صدرت للكاتب الروائي الراحل سعد محمد رحيم (1957- 2018) روايته التي تحمل عنوان (القطار .. الى منزل هانا) عن الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق ،واعتمد الروائي في روايته على ثلاثة أصوات في سرد الأحداث،وهذه الرواية لم يمهل الموت الكاتب ليكملها وان انتهت الرواية بعبارة (انتهت) !!
يقع الكتاب في 280 صفحة من القطع المتوسط ، صمم غلافها الدكتور فرات العتابي ، يعتمد المؤلف العناوين (الامكنة والازمنة) لترتيب فصول الرواية التي تدور احداثها بين عامي 1966 و2006، بين مكانين وزمانين مختلفين، وذكريات عنفوانها (نزوة عابرة) طواها النسيان بالنسبة لها فيما ظلت في باله متألقة لمدة اربعين عاما فكان يؤسس عليها حبه الذي اصبح شجرة وارفة الظلال ولكن من دون ثمر، تضمنت الرواية مقدمة طويلة كتبها الناقد فاضل ثامر تحمل عنوان (الذاتي والموضوعي واشكالية التجنيس في الرواية) ، اكد فيها ان الرواية ممتلئة بالرموز والاحالات والمرجعيات والازمنة والامكنة مما يجعلها قابلة لقراءات وتأويلات واستنطاقات لا نهاية لها خاصة وانها تظل مفتوحة النهاية حتى ليخامرني الشك في ان الرواية بمعنى من المعاني يمكن ان تكون ناقصة او غير مكتملة ،وان المؤلف نفسه تمنى في السطور التي تصدرت الرواية والتي تعد بمثابة عتبة نصية دالة ان تكتمل ذكرى هذه الارتحالات والحكايات المرممة بالخيال والتي يستدعيها عن طريق الكتابة كي يكتمل النص المجنون .. لعله يكتمل .
ويضيف : ولذا فأتساءل احيانا مع نفسي فيما اذا كانت هذه الرواية هي سيمفونية سعد محمد رحيم الناقصة التي لم يمهله الموت ليكملها .
وتابع: هذه الرواية الحداثية ،كما نرى، هي نص كتابي مفتوح جناسيا استطاعت ان تلتهم بشهية مفتوحة الكثير من عناصر ومقومات اجناس ادبية وفنية مجاورة او مقاربة داخل معداتها وتمثلتها ابداعيا من خلال عملية تناص معقدة مع عشرات النصوص والشخصيات الروائية لتتحول الى نص مفتوح يحمل الكثير من المقومات التي اشرها الناقد والروائي الايطالي (امبرتو ايكو) عن النص المفتوح.
ويختتم فاضل ثامر مقدمته بالقول: رواية (القطار.. الى منزل هانا) اضافة مهمة للمتن الروائي الذي خلقه الراحل سعد محمد رحيم للرواية العراقية.
لكن الكاتب يفتتح روايته بكلمات تؤكد شغفه بـ (هانا) ويضع امام القاريء تصوراته لها وكأنه يريد توضيح ان مشاعره لها عارمة ، يقول عنها :

(هانا, ألفظها كأنني أرتشف الفجر

أحسها قطعة حلوى تتلاشى في الريق.

هانا, مفتتح ترنيمة قداس, واول شهقة فرح.

والنفس اللاهث لعصفور يمارس الحب.

ها, فيرتعش الهواء بالتذاذ في فراغ الفم.

نا, فيتساقط في روحي الندى إذ يلمس اللسان بخفة عذبة سقف الحلق.
هانا, ذكرى ارتحالات قديمة, وحكايات مرممة بالخيال ,أستدعيها الآن بقوة الكلمة,كي يكتمل النص المجنون, لعله يكتمل ).
وهذه الكلمات تمثل مفتتحا رومانسيا جميلا يوضح فيها ما يختلج في نفس بطل الرواية تجاهها وقيمتها بالنسبة له على الرغم من السنوات الطويلة التي فرقت بينهما،ومنه يستشف القاريء جدوى ركوب القطار الى منزل هانا ،بحثا عنها وكان معه عنوانها القديم ،حيث لابد من لقاء يفجر الذكريات والحكايات التي تعود الى ازمنة بعيدة ،مثلما هو يجذب القاريء الى قراءة الرواية وعدم الانقطاع عنها .
تبدأ الرواية من مستشفى في لندن التي يذهب اليها (رمزي عبد الصمد) الباحث في الاثار عام 2005 ،وقد بلغ من العمر الخامسة والستين ليقيم مع ابنته الطبيبة، لكنه ينتفض لاستذكار امرأة اسمها (هانا) لم يلتق بها منذ اربعين عاما، هانا ابنة (ديفيد ماير) عالم الآثار البريطاني، الذي كان يعمل معه طوال مدة عمله في العراق، هانا التي ظلت تتوهج في ذاكرته منذ عام 1966 عندما جاءت لزيارة والدتها جاكلين كاتبة القصص البوليسية، ووالدها الذي كان في مهمة بحث وتنقيب عن الآثار العراقية في مكان اسمه (الحنينة)، هانا.. التي لم تفارق خياله وعاش طوال السنوات مشغولا بها وان كان لا يعرف طبيعة العلاقة معها ونوعها، يسأل نفسه (إن كانت العلاقة حبا أو لم تكن)، يجد السؤال صعبا ، ولانه يحتفظ بعنوان بيت عالم الآثار يذهب إليه، ويطرق الباب، ويجد هانا تعيش وحيدة مع خادمتها، بعد أن توفي والداها، وقد تجاوز عمرها الستين عاما، ولا تذكر اي شيء مما احتفظت به ذاكرة رمزي، ولا تتذكره هو شخصيا في بداية اللقاء، لأنها لم تمض مع والديها في العراق سوى أسبوعين، لتعود بعدها إلى إنكلترا.

(– أعذرني لم تعد الذاكرة كما كانت

– وخرجنا ذات ظهيرة أنا وأنت

– أنت لا تدري ما الذي حصل طوال أربعين عاما

– أعرف أشياء قليلة لكنه كان يوما خريفيا حارا

– أحسدك على ذاكرتك يا صاح، أظنني نسيت كل شيء.

- لم يمر يوم واحد من غير ان اتذكر تلك الظهيرة.. انا من اوصلك من ثم بالقطار الى بغداد وودعتك في المطار .

- أجئت من اجل ان تقول لي هذا؟ ماذا حصل في تلك الظهيرة اللعينة ؟!!) .
وازاء هذا الرد منها الا ان خيوط العلاقة تتواصل فيما بينهما ،تبدأ من الصفر وتتدرج لتكون اقوى مع الايام ،يبدأ الستينيان بنسج علاقة جديدة حيث تستمر زياراته لها المفعمة بالرعاية والحرص والاعتراف بالحب الذي كان منذ اربعين عاما خاصة بعد ان عرف رمزي ان هانا مصابة بالتهاب المفاصل وتعيش وحيدة الا من خادمتها (كمارا) فتتعالى بينهما الاهتمامات ببعضهما مرورا بالعديد من الاحداث ..وصولا الى النهاية التي يبدو انها لم تنته ،فمات الروائي سعد محمد رحيم فيما ظلت (هانا) تعاني من مرضها !!
في الرواية أعتمد الروائي سعد محمد رحيم على تناوب ثلاثة أصوات في سرد الأحداث: السارد العليم، الدكتور رمزي، وهانا، وهذا السرد اعطى للرواية قدرة على بذل المشاعر وقراءة الاحداث من وجهات نظر مختلفة فكانت المتعة اكبر لاسيما ان الروائي كان يتقمص هذه الشخصيات الثلاث بكثير من الروعة .
حين انتهيت من قراءة الرواية تأكدت ان رحيل سعد محمد رحيم خسارة للسرد العراقي والعربي .