كان البولوني &تشيسلاف ميلوش(1911-2004) شاعرا كبيرا، وناثرا رفيع المستوى، وناقدا مرموقا. وكان جديرا بجائزة نوبل التي حصل عليها عام1980. وهو الذي كان يصف نفسه ب" المنفي الأبدي"، كان يحب أن تكون حياته سفرا متواصلا لا يتعب منه أبدا. &وهو ينتسب إلى عائلة من ليتوانا كانت قد اختارت الاستقرار في بولونيا عام 1918. وفي مدينة فيلنو، أسس ميلوش في سنوات شبابه مع رفاق له مجلة ليجعلها ناطقة باسم حركة أدبية طليعية. وعقب إقامة في باريس أصدر عام 1936مجموعته الشعرية الأولى. وخلال الحرب الكونية الثانية أقام متخفيا عن الأنظار في العاصمة البولونية فرصوفيا مصدرا العديد من القصائد التي كانت توزع سرا. كما أصدر مختارات من الشعر الكفاحي والنضالي المناهض للنازية. وبعد الخرب، عيّن مُلحقا ثقافيا لبلاده في واشنطن، ثم في باريس. وعندما شرع النظام الشيوعي في بولونيا في ملاحقة المثقفين المنشقين، وفي كبت الحريات العامة والخاصة، استقال ميلوش من منصبه، ورفض العودة الى فرصوفيا. وكان ذلك عام1951. وبما أن الأنتلجنسيا التي كانت تعيش في المنفى تعاملت مع استقالته بتحفظ كبير، فإنه وجد نفسه وحيدا بلا أيّ سند. وبسبب ذلك عاش سنوات صعبة ماديا ومعنويا، مُنقطعا خلالها عن الكتابة، ولم يعد إليها بحمية وحماس إلاّ بعد أن عُينَ أستاذا في جامعة "بركلي" الأمريكية، وذلك عام 1960. وخلال هذه الفترة، أصدر العديد من الكتب الهامة منها "الفكر الأسير" الذي تحدث فيه عن القمع المسلط على المثقفين في بلاده، و "على ضفاف الايسا"، وهي رواية مفعمة بالأحلام عن طفولة في الغابات الغارقة في الضباب. وفي كتابه "أوروبا التي لنا"، اهتم ميلوش بعلاقة المثقفين المنتمين إلى وسط أوروبا بالشطر الغربي من القارة العجوز. كما أصدر مجموعات شعرية أتاحت له الحصول على شهرة عالمية واسعة بين أحباء الشعر.
وكان ميلوش يسمي أوروبا الوسطى "أوروبا الثانية". وعن ذلك كتب يقول :"أعتقد أنه لا يزال هناك امل في القارة الأوروبية. وهو موجود في الامكانيات المقموعة اصطناعيا في تلك البلدان الواقعة بين ألمانيا وروسيا، أي في تلك المنطقة التي أسميها "أوروبا الثانية" التي أصبحت تنظر إلى أوروبا الأولى بطريقة عادية، خالية من العقد، ومن مشاعر الاعجاب والتقدير القديم". ويضيف ميلوش قائلا :"أنا أنتمي إلى "أوروبا الثانية". ولست الوحيد. هناك أيضا ميلان &كونديرا على سبيل المثال لا الحصر. وعندما فررت الاستقرار في الغرب، كان عليّ أن أختار بين اثنين: أن أظل محافظا على لغتي الأم، أو أن أصبح كاتبا أمريكيا. لقد كتب نابكوف رباللغة الروسية في المنفى، ثم اختار أن يكتب "لوليتا" بلغة شكسبير. أما أنا فقد أحسست أن تراث بلادي ثري للغاية. أو لنقل أنني كنت أشعر أنني غنيّ بتاريخ هذه المنطقة التي أنا أسميها "أوروبا الثانية" المرتبط بفترة الشباب التي عشتها هناك. وأنا أعتقد أن احساسي بالتاريخ أكثر قزة من إحساس الغربيين، خصوصا تاريخ القرن العشرين. وأنا أسعى دائما لدراسة احساسي هذا، وابرازه وتعميقه".
وكان ميلوش &يبدي &اعجابا كبيرا بدستويفسكي. وعنه قال في احد الحوارات التي أجريته معه :" أعتقد أن شاعرا من القرن العشرين بإمكانه أن يتعلم الكثير &من دستويفسكي. إن واقعية هذا الروائي العظيم هي بمثابة حل الرموز من خلال عنصر بسيط من عناصر الحياة اليومية إذ أنه كان يسعى إلى مسك ما هو أساسيّ ومهم في المغامرة الروحية والفكرية للأنتلجنسيا الروسية خلال القرن التاسع عشر. إن البعد الديني لهذا المفكر الديني لم يكن موجودا لوحده، بل كان مصحوبا دائما وأبدا بالبعد الميتافيزيقي. ونحن نلمس هذا الأمر عندما نقرأ كتاباته السياسية التي هي غير معروفة جيدا لدى قرائه".
ومعلقا على قولته الشهيرة :"الشعر ملاحقة متحمسة للواقع"، قال ميلوش :"نعم...لقد قلت إنه ليس هناك علم، أو ليست هناك فلسفة يمكن أن يغيّرا من حال شاعر يجد نفسه يوميا &أمام واقع يتجدد دائما، وإنما هو يجد نفسه أمام واقع معقد، لا ينضب أبدا. واقع يحاول أن يحبسه داخل الكلمات. لذلك هو يسعىأن لا يفلت منه إلاّ القليل القليل. إن هذا العنصر البسيط الذي يمكننا أن ندقق فيه اعتمادا على الحواس الخمس، هو في نظري أهم من أي بناء ثقافي. ففي الرغبة التي لا تشبع أبدا، أعني الوفاء للعنصر البسيط، تكمن صحة الشعر، وأيضا إمكانية أن يظل حيّا في تلك الفترات التي قد تكون مُحَمّلَة بما يمكن أن يقتله، ويقضي &على وجوده. بالنسبة لي، الشعر هو أيضا بحث فلسفي، لكنه لا يترجم بطبيعة الحال الفلسفة إلى شعر. لنقل إنه تفسير للفلسفة. أن يعرف الشاعر الفلسفة، هذا أمر جيد. لكن شرط أن ينساها. المهم هو أن نعيش المعرفة الفلسفية في الشعر".