كتابة - إيمان البستاني


تتجلى فائدة كتاب ( مدني وأهوائي - جولات في مدن العالم ) الحائز بأستحقاق على جائزة ( ابن بطوطة للرحلة المعاصرة 2016-2017) للروائية والمترجمة العراقية المعروفة ( لطفية الدليمي ) في كونه اضافة قيمّة لما يقدمه من كمّ معرفي في حقل أدب الرحلات - هذا الفن الأدبي الشحيح الذي يتطلب جهداً استثنائياً يبدأ من التدوين بجهد يومي كأنه مذكرات ، استغرقت الكاتبة سنوات مديدة دأبت فيه على تسجيل اسفارها بلغة تطفو فيها أدبية النص الزاخرة التي استمدتها الكاتبة من تمّرسها المبكر بالفن القصصي الذي يمتاز بحضور تعبيري يقطّر سرداً ووصفاً وبهاءً في رحلاتها لبلدان العالم شرقاً وغرباً بتفاصيل أثنوغرافية مسّجلة فيها جغرافية المكان ومناخاته ، ساحاته ، اسواقه ، معارضه ، معالم أضرحته ، متاحفه وطبيعة البشر الإنسانية من عادات وتقاليد كالمأكل والمشرب والملبس ، اعظم ادبائه ، اشهر رساميه ، ملامح نسائه ، طبيعة رجاله مع تفاصيل تعتبر في غاية الاهمية لشخصيات معروفة في تاريخ الأدب مما اضاف متعة التقرب من هذه الاسماء وكأنهم يمثلّون فيلماً سينمائيا لاتعرف من سيخرج عليك في اللقطة التالية ، كثيراً ما استعنتُ بمحرك البحث لكي ارى ضريحاً او سوقاً او لوحة او حتى ان اسمع سمفونية جاءت على ذكرها الكاتبة جعلتني الحق بها وكأنني بهذا رفيقة سفر غير مرئية ، أطوف حيث تطوف الكاتبة ، انهل المعرفة من وصفها الدقيق الكفيل بتأثيث المشهد ، فكانت قراءة العمل سفرة مجانية لمدن العالم بتفاصيل تلتصق بالذاكرة &بلا تكاليف وبلا عناء حمل حقائب او معاناة الجيتلاك من اختلاف التوقيت وبلا غياب ايضا ، تسافر وقتما تريد ، وتعود الى ارضك وقتما تريد ،ويكفيك رفقة كرفقة الكاتبة القديرة ( لطفية الدليمي ) لترى بعيونها ولتسمع بكلماتها ولتندهش بوصف مشاهداتها
كما اضافت الكاتبة تقنية امتازت بها كتب الرحالة من مداخل لأبيات شعرية من جنس الرحلة وهذا دليلاً واضحاً على سعة ثقافتها واختياراتها الموفقة عند كل بداية لوصف مادة رحلية، فكان لوركا جالساً بأبياته عندما وصلت اسبانيا ، وسونيتات شكسبير تُعزف على &ابواب ستراتفورد ابون آفون ، و ت.س.إليوت كان ينتظر في كلية غولد سمث في لندن ، وعزمي مورةلي ينقش قصائده على احجار دمشق ، اما كافافيس فكان بحاّر السفينة من بيروت للأسكندرية ، و فريد الدين العطار كان حكيم الرحلة.
وكما هو معروف ان يقوم أدب الرحلة عل عنصرين أساسيين لا يستغني أحدهما عن الآخر، رحلة واقعية أجادت الكاتبة في نقلها ونص أدبي لا يخلو من الخيال وهنا وجدتُ حكاية ( رجل الحلم) الذي أشارت اليه الكاتبة منذ البداية بأنه رجل بملامح متغيرة يرافقها ، تبث اليه بمكنوناتها ، يصاحبها ، يغني لها ، يقرأ قصائد على مسامعها ، يراقصها ، يرتشف معها قدح الشاي الذي تجيد طقس اعداده ، ينتظرها في المحطات ، تبحر معه بزورق وقمر ازرق ،رفيق دربها ، هبة سماوية لا أرضية ، وحين تمعنتُ في غلاف الكتاب ( لوحة رقص في البلدة لرينوار 1883 ) المعروضة في متحف أورسيه ، التي تظهر رجل يراقص امرأة ، تيقنتُ انها انسب ما يوصف به رجل الحلم ، فكان الغلاف اختيار غاية في الموفقية
على مدى ( 280 ) صفحة تبدأها الكاتبة بأستذكار سنوات الطفولة وأولها صافرة قطار اخذها من بعقوبة الى بغداد وهي بالكاد تقرأ الحرف ، ورائحة البرتقال التي اعتادت والدتها ان تقشره لها ، طقس علاجي لوعكة السفر، ثم جاءت دمشق ، أول مدينة تسافر إليها خارج بلادها وآخر مدينة يمكن أن يطالها النسيان كما تقول&
تلتها رحلة وجهتها بيروت ، مدينة الآلهة ، تلتها ( الاسكندرية ) عروس المتوسط ما ان وصلتها حتى شكلت لنا الكاتبة حكاية تأجير شقة بتفاصيل و شخوص بملامح قريبة لممثلين سينما مصريين فأنتهت الحكاية واذا بها كأنها فيلم &( ميرامار ) احدى روايات نجيب محفوظ
ثم تأتي ( القاهرة ) مدينة في قلب مدينة في قلب أخرى كما تصفها ، عدا الزحام الذي لا مهرب منه ، مكافأة تحّملها كانت زيارة المتحف المصري العظيم وخان الخليلي والمكتبات العريقة في شارع الفجالة وعند سور الازبكية والمطاعم المفتوحة على الارصفة وضجة المقاهي أمكنة نجيب محفوظ بأمتياز
كانت احلام الناس تتجه للسفر غرباً وشمالاً نحو اسطنبول وأوربا وأميركا وشمال أفريقيا ، لكن كاتبتنا اتجهت شرقاً الى كرمنشاه ( قصر شيرين ) ايام كانت ايران تحت تاج الامبراطورية ، اجادت في الاسهاب والوصف لطريق كرمنشاه وكيفية العثور على الفنادق التي تشبه الخانات و وصفها لطاق بستان ومنحوتاته الأثرية و وجبة الطعام التي تناولوها رفاق الرحلة وتنسيقات المتنزهات المزينة بالورود والعشاق ، حتى وصلت الى مدينة ( همدان ) وبحثها عن نصب الفيلسوف ابن سينا حتى وصلت فردوسه ودخلت مبنى مكتبته الفارهة وكنوز المخطوطات المذهبة المحفوظة فيه
ثم وصلت مدينة الفيروز والزعفران ( طهران ) الفارهة بشوارعها الانيقة بأشجارها وجمال نسائها ورقة ناسها و سحر مطبخها الإيراني المشّبع بالترف والمتعة ، صفحات ممتعة وصفت فيها الكاتبة المدينة وما تشتهر به من اصناف اطعمة بأسمائها الفارسية وتنوّع توابلها &في نص بديع مسترسل بعذوبة سرد يشعرك انك جالس وسط هذا الوليمة المقدسة تشم عطر توابلها ويسيل لها لعابك وانت تقرأ السطور وقد امتلأ الوجود حولك جنة من أطباق رز مزعفر مكلل بالشواء تحيط به اطباق حلوى مغمورة بالفستق و ثمار فاكهة ومكسرات
أقترح عليهم احد الندلاء ان يزوروا قصر حديقة الورود ( كلستان ) المبني في القرن السادس عشر في عهد الملك طهماسب الصفوي وفيه القاعة العجيبة ( قاعة المرايا ) &وعرش الطاووس الامبراطوري الفخم الذي استخدم في حفل تتويج شاه إيران محمد رضا بهلوي وسجادة الذهب والياقوت والزمرد ...وخير تعليق سجلته الكاتبة كأنطباع لما رأت هو ( كل شيء حولك نفائس لا تقدر بثمن ...تبهر الأنفاس وتشعر المرء بالضيق لأنها اكثر مما ينبغي لحياة بشرية زائلة ص 85 ) ....مع كل الوصف البديع الذي يقدمه الكتاب سيأخذك الفضول الى اقرب حاسوب وستتشوق لرؤية ما افاضت به السطور
ثم يليه البازار الإيراني ، أغنى اسواق العالم ، يحيلك الى عوالم الف ليلة وليلة بمحلات اللؤلؤ والمرجان وصاغة الذهب المطعّم بالفيروز والزمرد والياقوت ومعروضات لحرفيين شعبيين ودكاكين سجاد وزعفران يٌباع بالمثقال كالذهب ، بعده كانت الوجهة لتشالوس ، ذلك المنتجع البحري المطل على بحر قزوين ، استوقف مركبتهم موكب الشاهبانو فرح والشاه يلوحان من وراء زجاج السيارة الملكية المصفحة للحشود المنتظرة على جانبي الطريق ....يتسلل الهدوء والسكينة من الاسطر التي تصف الشاليهات والشاطيء وحدائق الزهور وغابات البلوط المحاذية للشلال المنحدر من جبل يحاذي البحر توجت قدسيته بطقس لا تجيده الا النساء الحالمات فأعدت الكاتبة لرفقائها شراب الشاي المعطر على سماور قزويني وأبريق خزفي وأكواب مزخرفة آذرية فكانت مائدة سلطانية بشذى مساءٍ مغولي
في هنغاريا تعرفت إلى مدينة ( بودابست ) بدأتها بجولات مع رفقة صديقة هنغارية الى تخوم الغجر السيغان المتعسكرين خارج البلدة بعرباتهم وكرفاناتهم المتهالكة ، أمضت سهرتها معهم بقضم شواء لحم الطرائد المسروقة من فخاخ الصيادين وحساء يسمونه حساء اللصوص وشرب قهوة عرافتهم الجليلة ، ثم ينفتح المشهد على زيارة لمتحف الفن الحديث ولوحات الرسام الشهير ( فازاريلي ) ودار ( أوبرا بودابست ) وهي المولعة بسماع رابسوديات فرانزليست الشهير بهوس النساء به
بعدها جاءت زيارة (لندن) ترشيح من المعهد البريطاني في بغداد لدورة صيفية للتقرب على الأدب الأنكليزي في كلية (غولد- سمث) جامعة لندن في منطقة لويشام - نيوكرس وسط اجواء طلابية ممن حضروا من كل بقاع العالم بأعمار متفاوتة اشتركوا جميعا بمقررات ومحاضرات الدورة من قراءة روايات ومسرحيات لأدباء انكليز مشهورين ، كما قامت الكلية بتعريفهم على اهم مواثل الثقافة في بريطانيا : جامعة كامبردج ومدينة ستراتفورد ابون آفون حيث منزل شكسبير ومسرحه الملكي ومبنى البي بي سي وكنيسة ويستمنستر ،تقول الكاتبة ( فتحوا باب منزل شكسبير ، تجولنا في غرفه وردهاته مع صرير الأرضيات الخشبية ورائحة التربنتاين والإضاءة الخافتة ، وما أدهشني أن سرير شكسبير كان صغيرا جدا حتى لكأنه يصلح لصبي في &(109 العاشرة من عمره ص
تبعتها رحلة الى (مانشستر) الايرلندية وزيارة مدينة ( بلاكبول) السياحية على بحر ايرلندا ، لم ترق لها المدينة ببهرجها السياحي حيث بحرها رمادي كدر لايشبه البحار الرحبة الزرقاء ، في الطريق لجزر الكناري الإسبانية في المحيط الأطلسي كان اللقاء مع ( مدريد) المدينة الباسمة كعروس بنوافيرها وتماثيلها بمبانيها العريقة وفتنة النساء &، مقاهيها التي يصدح منها الفلامنكو والحفلات المرتجلة في الساحات، مدينة تتكثف فيها الحياة في نكهة مثيرة&
قصدت الكاتبة متحف الملكة صوفيا للفن الحديث فكانت الغورنيكا بأنتظارها في وقت كانت المدينة تحتفل بمئوية سلفادور دالي، في ( لاس بالماس ) عاصمة جزر الكناري كانت زيارتها التالية لحضور ندوة الرواية على هامش مهرجان القارات الثلاث ، جمع من روائيي العالم في اجمل بقعة على الارض ، ولك الباقي في التخيل عن روعة الوصف الذي تضمنته الاسطر
تطير الى بلاد نيتشة وغوته لحضور معرض فرانكفورت الدولي للكتاب برفقة كتاب عرب ، اقاموا في فندق عتيق الطراز في (ماينز) التي لها ايقاع مدوخ من القطارات والسفن والأرواح المتعجلة حسب قولها، افضل ما في الرحلة هو زيارة منزل ومتحف الشاعر العظيم (غوته) وقد افاضت الكاتبة في روعة وصف المكان مع نبذة سخية عن حياته ومؤلفاته
عندما زارت (قبرص) و(لارنكا) &ومن شدة اعجابها بكل ما يحيطها تقول الكاتبة : أتساءل وأنا أتجول في أزقة نيقوسيا ، لماذا نحب بعض المدن وتستهوينا إشارات ثقافتها وذاكرة حجارتها ؟ لماذا تغوينا فنقع في هواها ؟
ستلمس تبدل مناخ السرد حين تصل ( باريس ) لم تعد الكاتبة تحكي عن نفسها بصيغة الراوي الأحادي كليّ المعرفة، ، استبدلتها بالضمير الغائب منحى متبع في بث مكنونات النفس عندما يتغير جنس الأدب الى سيرة ذاتية، انشطرت عن ذاتها لتحكي تجربة العدم ، هكذا تسمي تجربة اللجوء ويسمّونه المنفى ويتعطفّون عليه قليلا أو كثيرا فيسمّونه التغرّب غير أنه يبقى ذلك العدم المقرون بالاقتلاع المرير والتشرد حيث تقول ( لم أتوقف يوما عن اندهاشي بما يروقني من أشخاص وأمكنة وافكار ، الدهشة كانت وستبقى دافعي للسفر والحب والقراءة وأكتشاف النفوس وأسرار الأمكنة ، مرة واحدة توقفتُ عن الدهشة عندما كنتُ لاجئة وحيدة في فرنسا ، لم أعد اندهش وانا المجروحة بالعنصرية والوحدة المطلقة ، &لكن دهشتي (كانت في ابهى تجلياتها عندما زرتُ إيران بعد زيارتي لمصر ولبنان
سيستمر الكتاب في أخذك لعوالم اخرى لمدن اخرى ، مانوسك باريس ، &بيرن المولودة في كهوف الدببة &وزيورخ التي تشبه قصيدة من ذهب ، أسطنبول مدينة العشق ، قونية مدينة الدراويش وضريح مولانا الرومي ، تفاصيل لعوالم نورانية&
وينتهي الكتاب حين يتهيأ رجل الحلم كأحد الدراويش مأخوذا بسحر الناي ، تقترب الكاتبة شاخصة بصرها اليه ، تدنو منه ، &تقترب أكثر , يقفز لذهني مشهد لقائهما معاً كأنه لوحة رينوار , الرجل والمرأة الراقصان بنشوة فرح في صورة الغلاف