&في السادس من شهر آب-أغسطس من العام الحالي، توفيت الكاتبة الأمريكية الكبيرة توني موريسون الحائزة عام1993 على جائزة نوبل للآداب &عن سن تناهز88 عاما. وهي تعد من أفضل وأشهر الكتاب السود في الأدب الأمريكي المعاصر. وفي سنوات شبابها، عشقت الأدب، وقرأت بعمق روايات جين أوستنـ والروسي تولستوي. وفي الجامعة أعدت أطروحة تخرجها عن الانتحار في روايات ويليام فوكنر، وفيرجينيا وولف. إلاّ أنها لم تشرع في كتابة الرواية والقصة بصفة فعليّة إلاّ بعد أن تجاوزت سنّ الأربعين. وكان عليها أن تقضي خمسة أعوام لكي تنتهي من كتابة روايتها الأولى "صول" التي تتحدث عن امرأة تعيش في حيّ من أحياء مدينة أوهايو. وبسبب رفضها للتقاليد المحافظة ،تتعرض الى هجومات عنيفة من الأوساط المتشبثة بتلك التقاليد. وبفضل هذه الرواية التي لاقت نجاحا واسع، فرضت توني موريسون نفسها في المشهد الأدبي الأمريكي والعالمي.

وفي روايتها الشهيرة Beloved التي حوّلت إلى فيلم نال اعجاب الملايين في جميع أنحاء العالم تتطرّق توني موريسون إلى موضوع العبودية. وتدور أحداث هذه الرواية في القرن السابع عشر، أي في الفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة الأمريكيّة لا تزال "عالما جديدا". وكان المهاجرون يتدفقون اليها من البلدان الأوروبية بأعداد وفيرة. بينهم سويديّون، وفرنسيّون واسبان، وايطاليون، &وهولنديّون، وروس. وكانت المدن تسمى بحسب الأسماء التي يختارها لها المهاجرون. وفي هذه الفترة بدأ بظهر خدم بيض. وفي الحقيقة كان هؤلاء الخدم عبيدا تماما مثلما هو الحال بالنسبة للخدم السود. وفي طريقهم الى المهجر الأمريكي، كان البعض من هؤلاء الخدم البيض يموتون قبل الوصول إلى "العالم الجديد". أما الذين يتمكنون من الوصول فإنهم يتحولون في الحين الى عبيد. وكذلك زوجاتهم، وأبناؤهم. الشيء الوحيد الذي كان يميّز الخدم السود عن الخدم البيض هو أن هؤلاء كان باستطاعتهم أن يفرّوا، وأن يذوبوا في الجموع البيضاء. وهذا ما لم يكن بمقدور الخدم الزنوج القيام به بسبب لون بشرتهم.

ويضم كتاب "جذور الآخرين" محاضرات كانت &توني موريسون قد ألقتها في جامعة" هارفارد" المرموقة عام 2016، وفيها تناولت موضوعات مختلفة متصلة اتصالا وثيقا بالقضية العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالعلاقات بين البيض والسود، وبلون البشرة، وبالهجرات الجماعية التي يواجهها العالم راهنا. وقد اعتمدت توني موريسون في ذلك على وثائق تاريخية، وعلى شهادات من البيض والسود، وعلى أعمال روائيين كبار أمثال فوكنر وهمنغواي . كما خصصت بعض الفصول لتقديم قراءتها الخاصة لأعمالها التي تناولت فيها جوانب مختلفة من المظالم التي تعرض لها السود في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد ألقت توني موريسون هذه المحاضرات في فترة عرفت فيها العنصريّة البيضاء تصاعدا رهيبا ومفزعا خصوصا بعد أن تمكن اليمينيون بقيادة رونالد ترمب من الدخول إلى البيت الأبيض ليصبحوا مُتحكمين في السياسة الأمريكية داخليا وخارجيا. إلاّ أن توني موريسون لم تتطرق إلى الأوضاع الحالية بشكل مباشر، بل اختارت النبش في جوانب مختلفة من التاريخ الأمريكي بحثا عن ما يثبت بالدليل القاطع أن العنصرية البيضاء قد تتقلص لحين من الزمن لكنها سرعان ما تعود متخذة أشكالا مسبوقة أو غير مسبوقة. لذلك يمكن القول أن كتاب توني موريسون يتواصل مع كتب أخرى ظهرت في فترات سابقة مثل كتب سفان بيكيرت وادوارد بابتيست التي ابرزت الطبيعة العنيفة للعنصرية، وكتب جيمس ماكفيرسون وايريك فونير التي كشفت عن الأسباب التي أدت إلى الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، إلى دحر المجهودات التي كانت تهدف إلى بناء البلاد واعمارها. &كما يلتقي كتابها مع كتابات أظهرت كيف أن العنصرية مهدت إلى محْتشدات الاعتقال الجماعية.

وفي بداية الكتاب، تشير توني موريسون إلى أن اكتشافها لما ترمز إليه بشرتها السوداء يعود إلى طفولتها. فذات يوم، جاءت الجدة من الأم التي كانت "سوداء مثل القطران" لزيارة عائلتها. وحالما لاحظت أن حفيدتيها كانت أقلّ سوادا منها، اغتاظت وصاحت محتجة على ذلك لأن لون البشرة بالنسبة لها هو الذي يحدد أصالة جنسها. أما الأقل سوادا فهم مزيفون. وهم أقرب إلى البيض منهم إلى السود. ومنذ ذلك الحين، ترسخت في ذهن الطفلة الصغيرة التي هي توني موريسون رمزيّة لون بشرتها في مجتمع يعاني من العنصرية البيضاء لتصبح هذه الرمزية موضوعا أساسيا في جل أعمالها الروائية والقصصية.

وتقول توني موريسون بإنها اعتمدت في روايتها "Beloved” على قصة واقعية بطلتها امرأة سوداء تدعى مارغريت غارنار في الخامسة والعشرين من عمرها، قامت بقتل أطفالها الأربعة بأشكال وحشية لكي لا " تسلط عليهم المظالم التي سُلطت عليها" ، ولكي "لا يعذبهم الأسياد البيض مثلما عذبوها" بحسب تعبيرها. وقد ارتكبت تلك المرأة جرائمها بهدوء، وبصفاء ذهني عجيب كما لو أنها تؤدي عملا صالحا. ولم تقم والدتها بردعها، بل كانت تراقب أفعالها من دون أن يصدر منها ما يشير بالموافقة أو الإعتراض، داعية الله أن "يأخذها بسرعة إلى العالم الآخر حيث يكف الأشرار عن ارتكاب الذنوب ".

ومن خلال يوميات صاحب مزرعة يدعى توني ثايستلوود، تثبت توني موريسون أن الإنسان العنصري يمكن أن يسعى إلى إثبات إنسانيته بأفعال لا إنسانية. فقد كان هذا الرجل يقوم يوميا باغتصاب الخادمات والعاملات في مزرعته إرضاء لشهواته وهوسه الجنسي. وهو لا يفصل أفعاله هذه عن الأعمال اليومية التي يقوم بها كالحرث، والزرع، وجزّ الأغنام، واستقبال الزوار، وغير ذلك. وهو يغتصب الخادمات والعاملات مرددا في داخله :”أنا لست وحشا! أنا لست وحشا! وإنما أنا أعذب اللاتي من دون وسيلة للدفاع عن أنفسهن لكي أؤكد لنفسي أنني لست ضعيفا!”. وكان توني ثيستلوود يعتبر عملية الاغتصاب "حقا مشروعا" باعتباره "سيدا" متفوقا عقليا، ويتمتع بخصال ومواهب لا يتمتع بها ضحاياه. وقد يجد "الأسياد البيض" متعة في تعذيب خدمهم السود من خلال إجبارهم على القيام بأعمال مرهقة ، بل قاتلة في بعض الأحيان. من ذلك مثلا أن امرأة سوداء روت أنها كانت تقضي الشطر الأكبر من النهار في منجم للملح ورجلاها في الماء حتى الركبتين. وفي نهاية عملها، تخرج منتفخة الساقين بحيث لا تقدر على الحركة بطريقة عادية. وكانت تصف مرورها من "سيّد إلى آخرّ كما لو أنه ّمرور من جزار إلى جزار آخر قد يكون أشد منه قسوة وشراسة".

وفي التقارير التي أعدوها، سعى علماء وأطباء بيض إلى إظهار دونية السود لتبرير عنصريتهم. وفي تقريره حول الأمراض والخاصيات الفيزيقية للجنس الأسود، أشار طبيب يدعى صامويل كارترايت كان يدافع باستماتة عن الاستعباد ،أن القاعدة العامة تثبت، باستثناء بعض الحالات، أن السود لا يمكنهم أن يتمتعوا بالمواهب والمَلَكَات التي تخوّلُ لهم الحصول على ثقافة أخلاقية والاستفادة من تربية دينية أو غيرها إلاّ إذا ما كانوا خاضعين لسلطة الرجل الأبيض. فإن لم يكونوا خاضعين لهذه السلطة، فإنهم يمضون حياتهم خاملين، ساكنين، وشبه نائمين كما لو أنهم مُخدّرُون. بل أن الدم الأسود الذي يجري في عروقهم غالبا ما يكون حافزا للجريمة، والعنف، والهمجية، والجهل، ورفض كلذ ما يمتّ بصلة للحضارة والتمدن.

وفي محاضرة حملت عنوان "الهوس باللون"، تطرقت توني موريسون إلى ملامح وخاصيات العنصرية البيضاء في الأدب . ففي قصة للكاتبة فلانري أو كونور بعنوان" الزنجي المُخْتَلَق"، يحاول رجل أبيض يدعى المستر هيد تعليم حفيده منذ البداية كيف يميز بين الرجل الأبيض والرجل الأسود، مُوحيا له أن هذا الأخير"ليس انسانا بالمعنى الحقيقي للكلمة"، بل هو في مستوى قد يكون قريبا من مستوى الحيوان. وفي روايات وقصص ويليام فوكنر، تتحول قطرة الدم التي قد يحملها رجل أبيض إلى "لعنة" تلاحقه طوال حياته، وإلى عقدة تثير لديه نوازع العنف والشر والجريمة. وعند همنغواي، قد يكون اللون الأسود موقظا للغرائز الجنسية ومحفزا على الشبقية والإيروسية. ففي قصة"حديقة عدن"، يقضي شاب وشابة شهر العسل على الشاطئ اللازوردي الفرنسي. وهما يمارسان الجنس طوال الوقت بمتعة لا مثيل لها. وفي حوار يدور بينهما، تطلب الفتاة من الفتى الذهاب إلى شاطئ في الجنوب لنصبح أكثر "سوادا" إذ أن اللون الأسود يثيرها، ويجعلها راغبة في المزيد من متع الحب والجنس...

بوفاة توني موريسون، يكون الأدب الأمريكي قد فقد وأحدة من أفضل وأعمق الكتاب الذين كتبوا ملحمة النضال المرير الذي خاضه السود على مدى قرون عديمة من أجل التحرر، وكسر قيود الاستعباد... &&