&

هايل شرف الدين

الانتحار المعنوي هو سلوكٌ هروبيٌّ وردُّ فعلِ الإنسانِ في مواجهة الواقع بعد عدم تقبُّله للوضع الجديد الذي وجد نفسه فيه. ويحدث ذلك بعد تعرُّضه لحادثٍ أدَّى به إلى إعاقة جسدية أو نفسية، أو تعرُّضه لصدمة نفسية حادَّة رافقها حزن خانق لا يطاق. فبعدما عجز عن إنهاء حياته بانتحار فعليّ، لجأ إلى هذا السلوك بغية الانتقام من الذات أو تخليصها من العذاب على هيئة "انتحار مسرحي" إذا صحَّ التعبير. وثمَّة ثلاثة نماذج واضحة للانتحار المعنوي، أو "الموت الوجداني" كما يُسمّيه البعض: يأتي النموذج الأوَّل على هيئة استسلام تامّ للواقع المفجع الحزين، وغالباً ما تأتي هذه الاستجابة بعد فقدان شخص عزيز؛ موتاً أو فراقاً. حيث يفقد الشخص الرغبة بتناول الطعام، ويتجنَّب زيارة الأماكن التي تحمل الذكريات المشتركة. ولا يبالي بالأحداث الجديدة والمثيرات الخارجية مستسلماً لحزنه.
وبكلمة أُخرى، فهذا الشخص يتحوَّل إلى "شبح" شخصيته السابقة. لكنَّ هذا السلوك الطارئ يزول بعد انقضاء فترةٍ من الزمن يعود بعدها الشخص إلى حياته الطبيعية. ولكنْ في حالات أخرى يذهب به الأمر إلى الكآبة والسودادية، ليفقد بعدها الحافز
تجاه الحياة، فيلجأ إلى الانتحار الفعلي. ويأتي النموذج الثاني على شكل استنزاف للذات وإرهاقها في العمل أو في الخضوع للأوامر والطاعة الزائدة، كالمبالغة في الرضوخ الـمَرَضيّ لسلطة في الأسرة: زوجة، أمّ، خالة... إلخ. أو في العمل القهري، كالزوجة التي لا تحبُّ زوجها وتهرب منه بحجَّة العمل المنزلي، فتستهلك نفسها ويومها وحياتها في العمل، أياً كان هذا العمل، فالمهم أن تهرب من واقعٍ ما بممارسة اللاشيء. أمَّا النموذج الثالث فيأتي كردِّ فعلٍ معاكسٍ يُصوَّب نحو الذات، يطلق فيه الإنسانُ النارَ على نفسه وجدانياً. لماذا؟ لأنَّ هذه الذات هي المسؤولة عمَّا حصل له!
فعلى سبيل المثال، ثمَّة شاب هجرته حبيبته، أو غادرت حياته لسبب ما. فتزوَّج هذا الشابّ من فتاةٍ يعرفها سابقاً ويعلم أنها لا تناسبه، بل إنه يكره كلَّ شيء فيها ومع ذلك يصرُّ على الزواج منها، ويؤذي نفسه ويؤذيها في كلّ يوم يعيشه معها، ظنَّاً منه بأنه ينتقم من ذاته التي فشلت بالبقاء مع حبيبته السابقة! وهو بذلك يفعل فعلَ العقرب الذي يلدغ نفسه، كما يُقال.
وهذا مثالٌ ثانٍ عن شخصٍ تمَّ إجباره – تحت ظرف معيَّن - على الزواج من امرأةٍ لا يحبُّها، ولم ينفصل عنها، بل عاش معها عشرات السنين. لكنه يُذكّرها في كلّ مناسبة بأنه يكرهها وبأن زواجه منها كان رغماً عنه، وأن كلّ يوم يُمضيه معها يُشعره
بأنه يغرق في المحيط. ومع ذلك يصرّ على البقاء معها تحت ذريعة جديدة في كلّ مرة! وبالطبع، هناك نماذج أخرى غير تلك التي ذكرناها، لكنها أقلّ انتشاراً.

باحث سوري في علم النفس التحليلي.
&