بقلم نورة البدوي/ تونس
&& &
تعد قصيدة النثر بوابة لتكثيف المعاني و التقشف في الكلمات و كأنها صفة لاختزال شعرية الفضاء في القصيد لتجسد حضور الأنا بمختلف تجلياتها و حالاتها من ناحية و تشريك القارئ من ناحية أخرى.
الصفة نفسها التي اعتمدتها الشاعرة التونسية الثريا رمضان في إصدارها الشعري "شفاه مثقوبة" و هي المجموعة الصادرة عن عليسة للنشر و التوزيع 2019 والواردة في 84 صفحة، حيث اعتمدت الثريا على لغة الإيحاء و التكثيف و التلخيص كوسيلة لرسم صورها الشعرية و تبليغ المعنى و تشريك القارئ. لعلّ أوّل ما يضعنا على طريق فهم استراتيجية النثر في رسم صورة الشعر لثريا الرمضان هو التصدير الذي لم يخلو من جمالية الإيحاء و الاختزال و جمع الأضداد كقولها : "عدني أن نخيط آثامنا ... ونصنع منها ثوب جنة" أو حين تقول ..” ثم يزغرد صعلوك على جلده المسبي في أظفار حزن" ص 5
&بهذه الثنائية في تقديم دلالة للمدلول و نقيضه من الصفات و العبارات تشكل الرمضان فاتحة تصديرها الذي أثثت نهايته بصورة تجريدية لامرأة كمعمار منفتح على معاني كل القصائد: "مثلما غفرت امرأة ليال دامعات لخناجر سنت على مهلّ" .
و كأن نهاية التصدير اختزال بدوره لإيحائية عنوان ديوانها الشعري، حيث تصرِّح شاعرتنا بالقول : "لعلّني أردت من خلال العنوان أن أحيل القارئ إلى فكرة المرأة التي يندلق من شفاهها المثقوبة الكلام دون توقّف، والتي يرى فيها الرجل امرأة "ثرثارة" بينما أراها أنا المرأة القنبلة، تلك التي صبرت طويلا ثم في لحظة ما انفجرت لتقول كل ما أخفته في صدرها من أوجاع و انزياحات وتمرّد وثورة".
ثرثرة نقلتها شاعرتنا في فضاء القصيد و معناه الدلالي من وطن و عزلة و صرخة و صخرة و قهوة و عتمة و ياسمين و رشاش ... و كأننا ازاء لوحات تشكيلية تتشكل فيها الأنا صرخة للآخر بألوان متعددة من الحياة التي تبهرنا ضياءا و الوجع عتمة الانتشاء، "كذا تسكب الجعة ،ّفي جيب قميص مكوي كي يستعيد انكماش الدهر منتشيا..." ص 24.
هناك تدفق للكلمات في قصائد شاعرتنا رغم التقشف و الضغط الذي لاحظناه فيها و كأنه إحالة إلى حضور الأنا الثريا التي جعلت من الكلمة مهمة وظيفية و توظيفية.
&في هذا الخصوص، تؤكد شاعرتنا : "إن هذه المرأة شفاهها مثقوبة إلا أنها كانت تحدد أفكارها في كلمات واضحة دون حشو أو ما يعتبره الرجل "ثرثرة"، إنها الثريا بشكل خاص كامرأة، وهي بالتالي المرأة في صورتها التي أراها بذاتيّتي، المرأة الذكية التي تعرف ما تقوله والتي لا تلفّ ولا تدور حول الموضوع لتوصل فكرتها. إنها امرأة تعرف كيف تحوّل غضبها إلى فكرة واضحة وصريحة بشكل مقتضب إن صحّ الأمر."
&لم تنعدم القصائد من حضور للصور الخيالية و التجريدية في نهاية النصوص و كأنه أسلوب اعتمدته الثريا لتكون كل نهايات النصوص بدايات مفتوحة من رحم الأفكار و الكلمات و المعاني "تطوف حولهما بنات الغيم، منافذ الحرية. ّتسد بنات الغيم لـ ينمن... يحرسن المسافة... والمسافة إصبع ونصف!" ص 26 او كقولها " يا لطاولتي.. فضحت خطى الورق... و دفاتر حنينك... وحروفا وشمت كتفي بها . أحبك." 45ص .
عن هذه الصور تقول الثريا: "ربما هو أسلوبي الخاص في توليد الأفكار داخل نصوص نثرية سأسميها قصائد نثر، استخدم غالبا أسلوب الخيال وتوظيف الأسطورة لأنني أرى في تلك الأساطير أصل الحياة وأصل المفاهيم الإنسانية من حب وغواية وغضب وتمرّد ووو... هذه الأساطير ممتلئة بصور قابلة للتوليد لخلق قصائد ملغّمة قابلة للتأويل على وجوه مختلفة وهو ما أراه تميّزا لهذه القصائد. "
لم تكتف الثريا بحضور الصور الخيالية فحسب إنما جعلت منها فضاءا للواقع و لحكاياتنا الممزوجة بتناقض حالاتنا و كأنها بذلك تنشأ في فضاء القصيد توالد بين الخيال و الواقع لسرد حكاياتنا نثرا من الحب و الحرب و الظلمة و النور و الاحتواء و الوحدة: "لقد جعلت من الخيال أرضا خصبة لحكاياتنا نحن البشر، تنبت فيها عشبا وزنابق وعوسجا أيضا، فالخيال لم يأتِ من عدم إنما خلقه الأولون حسب ظروف حيواتهم وحسب وعيهم وتفكيرهم ورؤيتهم للحياة بشكل عام. وبالتالي أرى أن الخيال هو العالم الموازي لعالمنا، يشبهنا كثيرا غير أن الأولين جعلوا منهم عالما لتحقيق أحلامهم ورغباتهم الدفينة التي لا يمكنهم تحقيقها على أرض الواقع، وكما هربوا هم نحو ذلك الخيال لإرضاء حاجياتهم النفسية هربت أنا نحوه لإرضاء جنوني الشعريّ، " حسب تعبير شاعرتنا.
هروب يمكن القول عنه إنه جعلنا نعيش حالات متنوعة من غياب و حب و اشتياق : " أنام على صمت جدار منهك، .. الى أن كاد يسقط من فرط الضحك "...ص 51.
&و كأن كل هذه الحالات هي بغاية إدخال حركة في القصيد و معانيه.&
&في هذا الصدد تقول الثريا، "أعتقد أن في هذه النصوص تكافؤ بين فكرة الحب وفكرة الحرب، كي تتم الموازنة بينهما كخير وشر لخلق التوازن في نهاية الأمر داخل القارئ. ربما سيجد في هذه النصوص منفذا نحو عالم آخر يشتهي الغوص فيه؛ هو عالم لا يخضع للروتين اليومي المنهِك ولا للضغط من خلال التعاملات العادية، إنه عالم يستطيع أن يقفز فيه من "أحبّك" إلى "انتهينا" ومن "ما أبهاك" إلى "ما أسوأك"، إنه عالم المشاعر الإنسانية التي كثيرا ما نحبّذ إخفاءها بدواخلنا خوفا من ردود الفعل غير المنتظرة".&

بطاقة تعريف بالشاعرة
الثريا رمضان شاعرة وكاتبة تونسية؛ صدر لها : "غدا يشرق النيروز" قصة "عارية أنام والخطايا" مجموعة شعرية "ريح الصبا" رواية "قاب حبين أو أكثر" مجموعة شعرية "شفاه مثقوبة" مجموعة شعرية.&&مخطوطة حازت على جائزة عليسة الأدبية عن فئة الشعر 2019