إنّ الشعراء نتيجة لطبيعة اهتماماتهم وعملهم الفني يفتقرون بشكل ملحوظ إلى ما يؤهلهم لفهم السياسة والاقتصاد. فاهتماماتهم الطبيعية هي في الأفراد والعلاقات الشخصية؛ في حين تهتم السياسة وكذلك الاقتصاد بأعداد كبيرة من الناس، من هنا اهتمامها بالإنسان العادي ذي السمات العامة وبالعلاقات اللاشخصية، وإلى حد بعيد اللاطوعية أيضاً. أما الشاعر فانه يضيق ذرعاً بفكرة "الإنسان العادي". وليس في إمكان الشاعر أن يفهم تأثير المال في المجتمع الحديث لأنه لا يرى أي علاقة بين القيمة الذاتية للأشياء وقيمتها في السوق. وقد يحصل على عشرة جنيهات مقابل قصيدة نظمها هي في اعتقاده جيدة جداً استغرقت كتابتها شهوراً كثيرة، ومائة جنيه لعمل صحفي استغرقت كتابته يوماً واحداً? فإذا كان شاعراً ناجحاً ­ وإن كان قلة من الشعراء يحصلون على ما يكفي من المال بحيث يشعرون بالنجاح كما في حال الراوي والكاتب المسرحي ­ فهو بلا شك عضو في "مدرسة مانشستر" ويؤمن بمبدأ عدم المساس بالحريات في صورته المطلقة. أما إذا لم يكن ناجحاً ويشعر بمرارة لذلك فانه يصبح عرضة للجمع بين التخيلات العدوانية للقضاء على النظام الحاضر، وبين مثاليات "يوتوبيا" أحلام اليقظة والوهم. وعلى المجتمع أن يحذر التخطيط لمثل هذه المثاليات من قبل الفنانين الفاشلين وهم يخططون لذلك على موائد المقاهي في ساعات الليل المتأخرة.
يعشق الشعراء جميعاً الانفجارات والعواصف الرعدية والحرائق الهائلة والدمار ومشاهد المجازر المثيرة. فالخيال الشعري ليس من الصفات المحببة إلى رجل الدولة. ففي زمن الحروب والثورات قد يؤدي الشاعر عمله بنجاح كمقاتل فدائي أو جاسوس. غير أنه أمر بعيد الاحتمال أن يكون الشاعر جنديا ونظامياً ناجحاً أو أن يكون في زمن السلم عضواً مخلصاً في لجنة برلمانية.
وتتحول النظريات السياسية جميعها حتماً كنظرية افلاطون التي تعتمد على القياس المأخوذ من الصناعة الفنية، إذا ما وضعت قيد التطبيق، إلى أنظمة استبدادية. وغاية الشاعر أو أي فنان آخر هو إنتاج شيء كامل ثابت لا يتغير. فالمدينة الشعرية تضم العدد نفسه من السكان الذين يقومون بالعمل نفسه إلى الأبد.
وعلاوة على هذا، فان على الفنان استخدام العنف بشكل دائم أثناء عملية الوصول إلى نتاج كامل. يقول الشاعر: "المرساة العالية علو السارية تغوص في شق،"

ثم يغيّر العبارة إلى: "المرساة تغوص في طرائق مغلقة،"

ثم يغيّرها مرة أخرى إلى: "المرساة تغوص في كومة قش،"

وأخيراً يغيّرها إلى: "المرساة تغوص في أرضية كنيسة".

لقد تمّ التخلّص من "الشق" و"الطرائق المغلقة" وأبعدت "كومة القش" إلى مقطع شعري آخر.
والمجتمع الذي هو كقصيدة جيدة فيه قيم فنية للجمال والنظام مع الاهتمام بوضع التفاصيل الصغيرة بموضع ثانوي بالنسبة إلى الشكل العام، هو كابوس من الرعب إذ أن الاطلاع على الحقيقة التاريخية لأناس حقيقيين يجعل من المتعذر على مجتمع كهذا أن يوجد إلا عن طريق &التوالد الانتقائي، والقضاء جسدياً وعقلياً عبر الأصحاء من أفراده، والطاعة المطلقة لديكتاتوره، مع شريحة اجتماعية كبيرة من العبيد توضع في سراديب بعيدة عن الأنظار.
وعلى العكس من ذلك فان القصيدة التي تشبه تماماً الديمقراطية السياسية ­ وهي مع الأسف موجودة ­ هي قصيدة لا شكل لها وفارغة المحتوى ومبتذلة ومملّة للغاية.

من:&و. هـ. اودن:&محنة الشاعر في أزمنة المدن" دار الساقي