& & &منذ أُعلِن في العاشر من تشرين الأول لهذا العام (2019) عن منح جائزة نوبل للآداب للروائي النمساوي بيتر هاندكه، والاحتجاجات لم تهدأ من قِبل كتاب ونقاد وسياسيين ومهتمين بالثقافة وحقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم، وقد تجاوز عدد الموقعين على عرائض تطلب سحب الجائزة منه أكثر من 38 ألفاً، وذلك على خلفية موقفه من حرب البلقان في تسعينيات القرن الماضي ودعمه للرئيس الصربي سلوفودان ميلوسوفيتشي المدان من محكمة الجنايات الدولية عام 2004 بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية، ورغم أن الجائزة لم تسلم في العقود الأخيرة من التحيز خاصة في ميداني الأدب والسلام، وَوُجهت لها عدة مرات انتقادات لخضوعها لتأثيرات سياسة وإيديولوجية، فإنها لم تجرؤ من قبل على اختيارِ داعمٍ لمجرم حرب مدان دولياً بهذه الصراحة والتحدي لقيم الديمقراطية والعدالة الإنسانية، معللة اختيارها له بجماليات اللغة عنده، مثيرة النقاش حول قضيتي انفصال الأدب عن الأخلاق وصعود اليمين المتطرف، ومعيدة إلى الواجهة مواقف هاندكة المستفزة خلال مسيرة حياته.

الكاتب المثير للجدل ومسيرة حياة شاقة مشبعة بالعنصرية ومسوّرة بالعناد:
& & &وُلد بيتر هاندكة عام 1942 في قرية غريفن الألمانية لأب نمساوي وأم سلوفانية، عانى من تعنيف زوج والدته مدمن الكحول، ولم يكن يعرف أنه ليس والده الحقيقي حتى فترة المراهقة، ثم كان لانتحار والدته أواخر العشرينيات من عمره أثرٌ كبير عليه تناوله في كتاب (الحزن وراء الأحلام).
& & & له كتب عديدة في الرواية والمسرح والشعر والترجمة والمقال، وقد تمكن خلال خمسين سنة من تجربته أن يصبح واحداً من أهم من كتب باللغة الألمانية منذ النصف الثاني للقرن العشرين، ومن كتبه التي تحولت إلى أفلام سينمائية: خوف حارس المرمى من ضربة الجزاء، المرأة العسراء، أجنحة الرغبة.&
& & &لم تكن حياته سهلة، إذ برز هاندكه ككاتب إشكالي ومثير للجدل منذ بداياته، وعدّه النقاد خليفة بريخت في المسرح، وقد نال عدة جوائز مرموقة منها كافكا وإبسن، لكن موقفه من حرب البلقان وصداقته للرئيس الصربي السابق ميلوسوفيتش أثارا انتقاداتٍ واسعة له، إذ زارَ صربيا بعد مجزرة سربرينتسا التي قتل بها 8000 بوسني مسلم، ونشر كتاب (رحلة إلى الأنهار: العدالة لصربيا) عام 1996 أنكر فيه المجزرة التي وثقها الإعلام الغربي حينها بما لايدع مجالاً للشك، فنعته الكاتب سلمان رشدي "بمعتوه العام"، وكذلك الكاتب ديفيد ريف الذي أعدّ دراسة عن كتابه قائلاً: "إنه لايعرف عما يتحدث، وقد جاء إلى صربيا وهو لايعرف شيئاً عن السياسات المعقدة وغادرها وهو لايعرف شيئاً"، وتضاعف الانتقاد له خاصة بعد إدانة ميلوسوفيتش من قبل المحكمة الجنائية الدولية، لكنه لم يتراجع، بل راح يوجه نداءات للدفاع عنه، وقام بزيارته في سجنه بلاهاي، وظهر على التلفزيون الصربي عام 1999 قائلاً: "أتمنى لو كنت راهباً أرثوذكسيا صربياً أحارب من أجل كوسوفو"، بحسب الواشنطن بوست، وظلّ هاندكه مصراً على موقفه رغم ابتعاد الجوائز الأدبية عنه، واحتجاب جائزة هاينرش هاينه بعد أن أبلغ بها شفوياً، وذلك على أثر مشاركته في جنازة الرئيس الذي مات في السجن عام 2006 وإلقائه خطاباً أمام قبره بحضور أنصاره، وقد فسّرَ فعْلَه ذاك في حوار أجرته معه النيويورك تايمز قائلاً: "أنا كاتب ولست قاضياً، أعشق يوغسلافيا، ليس بنفس الدرجة صربيا، بل يوغسلافيا، وأردت أن أكون إلى جانب البلد الأوربي المفضل لديّ لحظة سقوطه، وهذا مادفعني لحضور الجنازة". وفي تماهٍ مع موقفه المتطرف أعلن بدوره عن إعادة القيمة المالية لجائزة بوشنر التي نالها سابقاً احتجاجاً على موقف الكتّاب الألمان من حرب البلقان.&

ردود الفعل على الجائزة وغضب عارم وتخوف من العنصرية الصاعدة:
& & &أشار الكاتب الألماني البوسني الأصل ساسا ستانينسك إلى أنّ كتاب هاندكة (رحلة إلى الأنهار: العدالة لصربيا) والذي عدّه صاحبه بمثابة كشف لحقيقة الحرب، لم يصف مافعله الجيش الصربي وقائده، كذلك تجاهل الضحايا، منكراً الإبادة الجماعية، وقال ستانينسك في خطابه وهو يستلم جائزة الكتاب الألماني قبل أيام: "أنا كنت محظوظاً لأني تمكنت من الفرار من المجازر التي أنكرها هاندكة في كتابه، وأنا هنا بسبب الحقيقة التي فشل هاندكه بقبولها" وذلك بحسب الغادريان.
& & &أما الكاتب الأمريكي البوسني ألكسندر هيمان فقد كتب مقالاً في النيويورك تايمز وضّح فيه تزوير هاندكه للحقائق التاريخية حيث اعتبر الصرب ضحايا الحرب، بينما معروف في الإعلام الغربي أنهم هم ويوغسلافيها من أعلنوا الحرب على الدول الساعية للانفصال حينها سلوفانيا وكرواتيا ثم البوسنة والهرسك، وعبّر هيمان عن استغرابه من موقف هاندكه المنحدر من أمّ سلوفانية، وتساءل: "مالذي جعله يعبد وحشاً؟" ويبدو أنّ التفسير الوحيد الممكن تجلى في رؤية هانكه العنصرية، إذ يرى أن العرق الأوربي النقي لايوجد إلا في صربيا، وكأنّه يبرّر قتل الآخرين للحفاظ على هذا النقاء. وحول إنكار هاندكه للإبادة والتطهير العرقي يقول: "كيف يعتقد أنّ البوسنيين المسلمين المقيمين في سراييفو المتعددة العرقيات قتلوا أنفسهم في مجازر ضخمة ليتهموا الصرب بها؟!"، ويسخر من تقدير لجنة الجائزة لجماليات اللغة عند هاندكه قائلاً: "إن المجازر تأتي وتذهب، لكن الأدب باقٍ بالنسبة لهم، وإن صفحة من كتابات هاندكه تستحق حياة ألف بوسني مسلم"، وبيّنَ أنّ أوهام هاندكه اللا أخلاقية لها صلة بكتاباته التي تعتمد اللعب باللغة حيث يبدو الصح والخطأ متساويين تماماً، وأضاف " إنّ أي بوسنيّ نجا من الإبادة سيخبرك أنّ إنكار ماحصل لهم من معاناة هو استمرار بإبادتهم، ودفاع هاندكه عن هذا يمهّد لمجازر قادمة"
& & &ومن الكتاب والشخصيات المعروفة التي انتقدت الجائزة الصحفي الأميركي بيتر ماس الذي غطّى حرب البلقان للواشنطن بوست، وكتب مقالاً في الانترسبت علّق فيه على الجائزة: "لقد رأيت معسكرات الاعتقال التي أنكر وجودها هاندكه، وإنكاره هذا تزوير للتاريخ". وعن اليوم السابع ناقش الكاتب إد فوليامي &قضية استقلال الأدب عن السياسة والأخلاق مؤكداً أنّ الجائزة ليست أدبية فقط بل لها ذرائع أخلاقية، وقد حُجبت مراراً وحُرم منها كتاب كبار بسبب فاشيتهم أو معاداتهم للسامية كعزرا باوند. أمّا السفير الكوسوفي فلورا سيتاكو فقد نشرت صورة هاندكه في جنازة ميلوسوفيتش وعلقت على فضيحة الجائزة: " هاندكه مروج العنف والكره الطائفي"، بينما كتب المؤرخ أورلاند فيجز أنه صُدم بالجائزة ووصفه: "مدافع سيء السمعة عن نظام ميلوسوفيتش المجرم" (الواشنطن بوست)، كما أعلن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بياناً يندّد فيه بمنح جائزة نوبل لهاندكه.
& & &ال بي بي سي بدورها ذكرت أنّ هاندكة في لقاء تلفزيوني في عام 1999 قارن بين مصير الصرب واليهود الذين تعرضوا للهولوكوست، ثم عاد واعتذر عن الاحتجاج بالهولوكست معتبراً أنها زلة لسان.&

دفاع الأكاديمية عن اختيارها وفصل الأدب عن السياسة والأخلاق:&
& & & أوضحت الأكاديمية السويدية لجائزة نوبل "أنّها منحت الجائزة لهاندكه عن أعماله الأدبية المؤثرة التي انطوت على براعة لغوية، تستكشف محيط وخصوصية التجربة الإنسانية"، ووصفه هنريك بيترسون & عضو لجنة نوبل للآداب بأنه مناهض للحروب والقوميات، وليس سياسياً في كتاباته، وأنّ دعمه للصرب كان غيرَ مفهومٍ، بينما أشارت ربيكا كاردي إلى أنّ مهمة الأدب تتجاوز تأكيد وإعادة صياغة وجهة نظر المجتمع الأخلاقية، لكنها أضافت: "لاأريد الاعتذار عما قاله هاندكه وفعله من أشياء صادمة، فالأكاديمية قررت أنّه يستحق الجائزة". عضوان آخران في الأكاديمية هما ماتس مالم و إريك رونسون أقرّا أنّ هاندكه " أدلى بتصريحات مستفزة وغير ملائمة أو واضحة بشأن قضايا سياسية" بحسب ال ب ب سي، لكنهما أضافا أنّ الأكاديمية لم تقصد أن تكافئ مجرم حرب أو من ينكر جرائم الحرب والإبادة رغم أن الإعلام يشي بهذا الانطباع، وأضافا أن " الأكاديمية لم تجد في كتاباته أي هجوم على المجتمع المدني أو انتهاك قيم المساواة بين جميع الناس:، وتساءلا عن المصادر التي اعتمد عليها النقاد في حكمهم، كما اقتبسا قولاً من مقال له عام 2006 يعترف فيه بأن مجزرة سربرينتسا هي الأسوأ في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يذكر أحد من الصحفيين هذا المقال.&

موقف هاندكة من الإعلاميين والنقاد واستمراء التحدي:
& & &عُرف عن هانكة حب الاستفزاز والتحدي، فعندما منحته النرويج جائزة إبسن عام 2014 وخرج البوسنيون والألبان الذين يقيمون هناك في مظاهرات احتجاج لم يتجاهلهم وأصرّ على الذهاب "لينظر في عيونهم"، كما قال لوكالات الأنباء، ثم تنازل عن قيمة الجائزة إلى القرى الصربية. وكتب: "أنا كما أنا. فكروا كما شئتم، وكلما ظننتم أنكم أصبحتم أكثر قدرة على الحديث عني ازدادت حريتي إزاءكم. وعن تعلّقه العاطفي بصربيا كثقافة، يقول: "لأنّ هناك بقايا من أفلاطون، سقراط، سوفوكليس، وهوميروس، والتقاليد التي خلفوها محبوبة، ليس فقط في صربيا، ولكن أيضا في جمهورية صربيسكا. هناك نقاء يبلغ ألفي عام، وهذا النقاء غير موجود في فرنسا أو ألمانيا، قد يتواجد هناك، لكنه لايعيش، فهو لايتنفس"، وهذا التعلق هو الذي جعل هاندكه يغض الطرف تماماً عن سياسة صربيا ميلوشيفيتش التي تسببت بمقتل مائة ألف وتشريد مليونين (مريم تولتش). عندما تلقى الجائزة قال أنا كاتب ولست قاضياً، واتهم الصحفيين الذين جاؤوا لمحاورته بأنّ لا أحد منهم قرأ كتاباً واحداً له وجاؤوا يحاكمونه عن مواقفه السياسية، ولذلك أعلن أنه لن يتحدث ثانية عن السياسة (الغارديان).

هاندكه ونوبل في الميزان:
& & &تقدّمُ الأكاديمية مبررات أدبية خالصة لاختيارها هاندكه، وهو حقيقة يتمتع بأسلوب فريد، فتراه في رواياته يسحب قارئه بهدوء من سطر إلى آخر دون أن يشعر بثقل أنفاسه واضطرابه أمام الأحداث المربكة التي يورطه بها، وكأنه يمدّ له ضفائر الجميلة "رابنزل" ليصعدَ إلى ذروة التجربة الإنسانية بأمانٍ ثم يهبطَ إلى تأملاته العميقة رافلاً بالطمأنينة والسكينة، ولعلّ مايحتاجه القارئ المرهق اليوم، أن يجد كتابا ينعشه ويهدهده كأرجوحة في قلب الغابة، وهذا ربما ماجعل الروائي الصربي المقيم بألمانيا بورا تشوسيتش يعلّق على طريقة هاندكه الجمالية: "هذا الكاتب النمساوي لديه أسلوبه الشخصي للغاية، يذكر أسوأ الجرائم بلطف، وهكذا ينسى القارئ تماماً أننا نتعامل مع الجرائم"، نقلاً عن مريم تولتش.
& & & &يمزج هاندكه في كتاباته بين الفنون بشكل بارع، ويتحسّس من الأصوات الأكثر ملاءمة لنصوصه، ويبلغ اهتمامه بإيقاعات اللغة أن يتعلّم العربية الفصحى ويقرأ القرآن بها، معبّراً عن استغرابه من شعوب مسلمة غير عربية تقرأه مترجماً مؤكّدا على أن لغة القرآن لاتنفصل عن إيقاعاته، " يعتبر القرآن الكتاب الوحيد الذي لايمكن ترجمته على وجه الإطلاق إلى أي لغة في العالم. أتساءل ماذا يفعل الإيرانيون؟ القرآن مرتبط بالصوتيات العربية بالمعنى المطلق المرتبط بموسيقاه"، بحسب حوار له مترجم في صحيفة الاتحاد في 2014، وهكذا من يقرأ بعضا من إبداع هاندكه سيتفهم إلى حد كبير تأثر لجنة الجائزة بجماليات اللغة عنده، أمّا كلام ربيكا كاردي عضوة الأكاديمية أنه ليس من مهمة الأدب توكيد أو إعادة صياغة وجهة نظر المجتمع الأخلاقيه، فإنّه يناقض مهمة جائزة نوبل وغاياتها في أن تكون أخلاقية بالدرجة الأولى، بل ينسف وصية صاحبها بأن " تمنح لمن له مساهمات في خدمة الإنسانية بالشكل الأمثل". ولاشك أنّ إدراك الجمال وتذوقه ونشره أمر إنساني، وظهور مناهج النقد البنيوية والشكلية المنصبة على دراسة اللغة في العمل الأدبي دون النظر إلى مايحيط به، ساهم في تطور الأدب وإثرائه وإعلاء القيم الفنية للنص، لكن العمل الذي يستحق تمجيد اللغويين والشكليين ليس بالضرورة أن يستحق جائزة نوبل، وذلك بسبب المعيار الإنساني المثالي الذي أقرّته الوصية، ولم تهتمَ به النظريات اللغوية والأسلوبية. كان هاندكه يستحق نوبل لولا موقفه اللا إنساني من التطهير العرقي، وعلى المؤمنين بالنظريات اللغوية إيجاد جوائز خاصة تملك ذات نظرتهم، وإلا فإنهم يُعتبرون قد سطوا على جائزة نوبل وسرقوها بكل معنى الكلمة.&
& & &وهذا ما أشارت إليه الكاتبة البوسنية التي تكتب بالعربية مريم تولتش في إضاءات: "كانت الأكاديمية السويدية قد استبعدت اسمه طوال سنوات، فما الذي استجد الآن ليجعلها تغير موقفها، وهل يمكن أن يكون هذا الاختيار أحد تداعيات صعود اليمين المتطرف في أوروبا؟".
& & &إنّ صحّ هذا فهو يعني أنّ اختيار الأكاديمية لهاندكه لم يكن فقط لأسباب جمالية كما ادّعت، بل لأنها تراه يمثل العنصرية المستترة داخل كل فرد منهم بجرأة وعناد وتحدٍّ وكبرياء وصلف. إنه الوجه الأجمل لتفوق العرق الأبيض المسيحي، وهو قادر على ملء كفة الميزان بخيالات الامبراطوريات السالفة المتعالية وإحياء الشغف بأسطورة النقاء العرقي المقدس مقابل قيم المجتمع الديمقراطية التي هرمت فجأة وبدأت تتخاذل وترجع إلى الصفوف الخلفية تاركة قيادة العالم الغربي للفاشيات الجديدة النشطة.&

Peter Handke's Nobel prize criticized due to links to ...
https://www.washingtonpost.com/world/2019/10/10/peter-handke-won-nobel-his-great...

Peter Handke hits out at criticism of Nobel win | Books ...
https://www.theguardian.com/books/2019/oct/16/peter-handke-hits-out-at-criticism-of...

Swedish Academy defends Peter Handke's controversial Nobel ...
https://www.theguardian.com/books/2019/oct/21/...

‘The Bob Dylan of Genocide Apologists’ - nytimes.com
https://www.nytimes.com/2019/10/15/opinion/peter-handke-nobel-bosnia-genocide.html

Nobel Literary Prize Goes to Genocide Apologist Peter Handke
https://theintercept.com/2019/10/10/congratulations-nobel-committee-you-just-gave-the...

Nobel Prize judges defend award for author Handke - bbc.co.uk
https://www.bbc.co.uk/news/entertainment-arts-50099218

مريم تولتش – إضاءات
ida2at-2033742816.eu-central-1.elb.amazonaws.com/..