الشاعر يرقبُ الطريق، يرقبُ الفراغ فيه، يقف عند عتبته- هي وظيفته دائما- والعتبة هنا ليست دالاً مكانيا مجرداً، إنها فعل استعاري للزمن، وللتخيّل، وللتجاوز، ولاستدعاء العالم الى اللغة، حيث الحوار والاشتباك والألفة والتفكير والتمرد، وهي افعال لغوية للسيطرة على الفراغ.
كلُّ الشعراء لا يُطيقون الفراغ، والكتابة هي الوجود الضد للفراغ، حيث محاولة امساك العالم، وتحريضه على الانصات، واجباره على المكوث، والتحوّل الى أثر، الأثر ايضا هو من نقائض الفراغ، والشاعر" الجاهلي" حين يكتب عن الطلل، فإنه يكتب كراهيته للفراغ بوصفه غيابا.
وأحسب أن الشاعر الفلسطيني المسكون بالعتبات هو اكثر الشعراء ضراوة ضد الفراغ، الفراغ الهوياتي، الوجودي، العلاماتي، وحتى المكاني بوظيفته الزمانية، وقصيدته هي استدعاء كبير للتفاصيل المقاومة لذلك الغياب/ الفراغ، بدءا من الذاكرة وليس انتهاءً ب" التاريخ" مثلما هي اشهارٌ فاضح للوجود الضد، ولقهر كلِّ سسيميائية الفراغ التي يصنعها &العدو/ المنفى/ الاغتراب/ المحو، الاستبداد، الظلم.
نزعةُ الاعتراض عند الشاعر موسى حوامدة هي لعبته الاستعارية لمواجهة ذلك &الفراغ، ولاصطناع" وجودات" فائقة السيولة، والتسلل لاحتواء ما يتركه الغياب، فالحجر يحضر، والبحر يحضر، والمرأة تحضر، والمقهى يتسع، لكنهم جميعا في نوبة انكسار، الانكسار الذي يشبه الاشكال السائلة لسلفادور دالي، حيث التمرد السريالي على الثبات، والخروج عن الاستعارات والشواهد الكبرى، وحيث لا تضيق أمام الشاعر الرؤية، وحيث الهوس باستدعاء الحبيب والغائب أو البحث عنهما في اللغة قبل الوجود، فاللغة هي المتعالي من الوجود/ البيت ذاته كما يُسميها هيدغر.
قصيدة حوامدة هي استئناف دائم لفعل الوجود عبر اللغة، والرغبة الحميمة في مجاورة القلق، القلق بوصفه شقاوةً هيغلية، أو رغبةً للتمرد، ولعدم الاطمئنان والرضا على الوجود ذاته، فهو الفلسطيني الذي يمارس وظيفة الانثربولوجي والمؤول والحالم والحكواتي وسارق النار لكي يضبط ايقاع فاعلية الاستئناف في قصيدته، ولكي يُخلصها عقدة الفراغ الوجودي، ومن نزعة العجز في الحماسة والثأر والغناء المفرط.

الشاعر وكوجيتو المقاومة

أنا أقاوم، إذن أنا موجود، كوجيتو استعادي، واستعاري في آنٍ معا، إذ يتحفّز الشاعر لأنسنة فعل المقاومة عبر التفكير فيها، وعبر وضعها في سياق يخصّ التفاصيل، ومواجهة الفراغ العدو، والفراغ الخيبة، فما نقرأه في قصائده يكشف عن صراعٍ عميق، بين الذات التي تقاوم وترفض وتكتب، والذات التي تعيش رعب الاستلاب، أو الاحساس الخفي بالعدم.
هذا الصراع هو حافز للتجاوز، وللبحث عن تعالقات فلسفية مع ما يكتب، أو مايفكّر فيه، فالغناء لم يعد خلاصا فلسطينيا، والحماسة لا تكفي لوحدها لاستعادة الغائب، لاسيما وأنّ صراعَ هذا الفلسطيني مسكونٌ بصراعات معقدة، تمتد من عتبةِ العدو الصهيوني، الى عتبات الهوية والتشرد والنسيان والسجن والذاكرة العربية، لذا يتقنّع الشاعر بأقنعة كثيرة، مثلما يقف عند مرايا كثيرة، لكي يتمرآى مشاغبا، مشاكسا، رافضا، وساخرا، ولكي يجعل من" الكوجيتو" مجالا لاستعادة الذات/ الأنا التي توهبه الحضور إزاء الغياب، والقوة إزاء الضعف، والحرية إزاء الاستبداد، والوعي إزاء الخرافة والتابو.
الشاعر الرائي في تجربة موسى حوامدة يتشكّل عبر حساسيته الوجودية لفعل الرؤيا، والرؤية، إذ يستكنه عبرهما لعبة الوجود، ويتقصّى ما يمكن معرفته وكشف اسراره وفضحه، ف" أنا الفلسطيني" محاصرة بذاكرة الفجيعة والعدم، ووظيفته في الكوجيتو هي ممارسة التمرد بوصفه تفكيرا بصوتٍ عال، أو صاخب لفكِّ عقدة الحصار، ولإعادة توصيف الشاعر خارج الفجيعة، وأحسب أنّ ذلك تحديا يستدعي من اللغة طاقتها الاستعارية مثلما يستدعي من الفلسفة طاقتها المعرفية، إذ تكون المعرفة خلاصا وتطهيرا للوعي والجسد والذاكرة والتاريخ والكتابة ذاتها.
كلُّ ما على الأرضِ افْتراءٌ،&
"صخبٌ وعنفٌ"، وعواء،
&مسرحٌ مفضوحٌ، هدوءٌ يسبقُ الحقولَ،
&وثرثرةٌ تُصغي لتَفاهةِ المعنى،
&تقضمُ تفَّاحَ القَصائدِ،&
وشجرَ الهَوامشِ،&
في كتبِ الظَّلام،&
وتفسيرِ الضلال.&
والآنَ يا صاحبي وحدَكَ تَرتَّقي شيئاً غامضاً،
&الآنَ قُلّ لي: ما أنتَ؟
&لا لن أقول/ فأنا سرُّ نفسي..
وعلى خُطاي أسير.
تجربة موسى حوامدة تفترض قراءة مغايرة، ليس لأنه يكتب القصيدة التي تستغرقه، أو التي تتمرد على ما هو نسقي وعتباتي، بل لأنها تكشف عن اسئلة مغايرة، في جرأتها، وفي نزقها، وفي مواجهتها للتاريخ، بما فيه التاريخ الفلسطيني ذاته المحاصر بالغناء والمثيولوجيا، وهذه بطبيعة الحال مهمة خطيرة لاعادة التوصيف، ولكتابة شهادة حية عن الفلسطيني الذي يقاوم الفراغ، مثلما يقاوم العدو، وحساسية الشعر هنا هي المجسُّ، وربما فانوس ديوجين الذي يدفع الشاعر/ الفيلسوف للبحث عن الحقيقة، والمعرفة..

ناقد وشاعر عراقي.