الحبُّ شرطٌ أساسيٌّ لبناء علاقة إنسانية سليمة بين طرفَيْن، سواء أكان هذان الطرفان صديقَيْن أو زوجَيْن أو أخوَيْن... وبالتالي فإنَّ أيَّ علاقة تقع ما بين شخصين، أو أكثر، لا يكون الحب أساسها، فستكون علاقة نفعية أو عُصابية أو غائية. وهذا النوع من العلاقات هو الأكثر انتشاراً في عصرنا الراهن. فلم يعد الرابط الذي يجمع الشابّ بالفتاة، أو بالعكس، هو الحبّ المتبادل، بقدر ما هي الحاجة إلى الجنس، أو الحاجة إلى زواجٍ مُربحٍ يُمثّل منفعةً لأحد الطرفَيْن (تأمين فرصة عمل، سكن لائق... إلخ). تقريباً، باتت مشاعر الحبّ كالبذور الموضوعة على منديل ورقيّ لا مستقبل لها في النمو. وبات موضوع البيع والشراء ونقص السلع التجارية وعقد الصفقات والمقايضات... سبباً وحيداً لتلاقي الناس وتواصلهم مع بعضهم البعض. إنَّ إنسان الآلة و"السوشال ميديا" والمأخوذ بالموضة، واختصاراً: إنساننا "الحديث"، هو إنسانٌ متخندقٌ ضمن نمطٍ معيَّنٍ من الحياة يجعله عاجزاً عن الحبّ ومفتقراً إلى العاطفة.

فالطفل يترعرع ضمن جوٍّ تنافسيٍّ رهيبٍ، في الأُسرة أو في الشارع. وأكثر الأشياء التي يكتسبها في تربيته تكون عبارة عن أساليب الهجوم والدفاع. وعندما يصل سنَّ البلوغ يصبح مُغلَّفاً بطبقات سميكة مكوَّنة من أفكار وتجارب وممارسات

سلبية، نتيجة تأثُّره بمحيطه، تعزله عن إنسانيته العميقة وتجعله متخثّراً في أنانيةٍ لا ترحم. ولنا أن نتخيَّل الحالة التي سيصل إليها عندما يكبر. وبالمحصّلة فإن إنساننا الحالي، في الغالب الأعمّ، مطابقٌ لصورة "الإنسان الاقتصادي" التي صوَّرها لنا، في ما مضى، المفكّر الإنكليزي والليبرالي توماس هوبز. وليسمح لي القارئ – كنوعٍ من الخاتمة - أن أنقل هذا الاقتباس المطوَّل لهوبز: "يقف عقل الإنسان في خدمة شهواته وأهوائه ومنفعته الشخصية. ولا تُحجم هذه الأنانية، ضمن ندرة الخيرات المتوفرة وضمن أسوأ الشروط الاقتصادية، عن اغتصاب حصَّة الآخرين من الخيرات المادية لصالح صاحبها لتضمن له نصيب الأسد. وبما أن الآخرين، أيضاً، تقودهم شهوات وأهواء مماثلة، فإن النتيجة المستخلصة من ذلك كلِّه هي السلب والنصب المتبادلان، لا بل أيضاً الضرب والقتل! وبسبب كلّ تلك الأنانية والعدوانية الناشئة عنها يصير الوجود الإنساني مهدَّداً. لذلك، ومن أجل اتقاء (صراع الكلّ ضدَّ الكلّ) لا بدَّ من تدخُّل العقل، أو بالأحرى إجباره على التدخُّل. وهنا فعلاً تتدخَّل غريزة البقاء لدى الإنسان، مُرغِمةً العقلَ على مسلك جديد يوصل إلى إبرام عقد اجتماعي".

باحث سوري في علم النفس التحليلي.