في بداية حكمه مطلع الثمانينات من القرن الماضي، أعلن الرئيس الفرنسيّ الرّاحل فرانسوا ميتران أنه من الضّروري تعميم تدريس الفلسفة، والإعتناء بها في المعاهد، وفي الجامعات كمادّة أساسيّة في توجيه الأجيال الشابّة،وتربيتها. واستجابة لهذه الدّعوة، قام الشاعر، والفيلسوف جان بيار فاي بتقديم اقتراح يقضي بإنشاء معهد عالمي للفلسفة تكون مهمّته الأساسيّة تنظيم ندوات حول قضايا فلسفيّة ،والتّعريف بكبار الفلاسفة من القدماء والمحدثين. وقد تحمّس ميتران للفكرة المذكورة، ودعا إلى قصر "اللأليزيه" جان بيار فاي أكثر من مرّة لمناقشتها. لكن في النّهاية، خيّرت الحكومة الفرنسيّة تعيين الفيلسوف المعروف جاك دريدا على رأس المعهد الجديد، أعني بذلك المعهد العالمي للفلسفة.فكان ذلك بمثابة الطّعنة لجان بيار فاي ولمشروعه. غير أن جان -كلود ميلنار الذي أصبح عضوا في المعهد المذكور علّق على القرار قائلا:"لقد كان مشروع جان بيار فاي مغريا حقّا إلاّ أنه يحتاج إلى مشروعيّة فلسفيّة، وإلى شهرة عالميّة تضمن له النجاح، والإستمراريّة. وهذان الأمران متوفّران لدى جاك دريدا وليس لدى فاي".

ومع أنه عيّن سكرتيرا عامّا لما سمّي ب"المجلس الأعلى للتّفكير"، فإنّ جان بيار فاي شرع في شنّ معارك ضدّ خصمه اللّدود، جاك دريدا. وقد أفضت تلك المعارك إلى طرده من المعهد العالمي للفلسفة لينشئ "الجامعة الأوروبيّة للبحث"محاولا من خلالها منافسة خصمه. ولم يكتف بذلك، بل شرع في كتابة سلسلة من المقالات يتّهم فيها جاك دريدا بترويج فلسفة هايدغر في الجامعات الفرنسيّة من دون ان يأخذ بعين الإعتبار ماضيه النّازي حيث أن صاحب "الوجود والعدم" قام في الثلاثينات من القرن الماضي، وهو آنذاك عميد لجامعة فرايبورغ ، بتقديم تأييد علني لهيتلر في بداية صعود النازيّة.كما أنه-أي هايدغر- في دراسة له حملت عنوان "اللّغات السّلطويّة" ،أبرز الدّور الكبير الذي تلعبه الكلمات في توجيه العقول. وفي نصّ له حمل عنوان "رسالة حول دريدا "،اتّهم جان بيار فاي خصمه بأن "التّفكيكيّة" التي اشتهر بها، هي في الحقيقة مُستقاة من المعجم الفلسفي لهايدغر، وبالتّحديد من ما كان يسمّيه ب"فكر العرق"، الذي يحيل إلى النّازيّة. وقد ختم جان بيار نصّه قائلا:”الدلائل التي قدّمتها تؤّكّد بما لا يدعو السبيل لأيّ شكّ بأنّ هايدغر النّازي هو الذي يدير فكريا وفلسفيّا المعهد العالمي للفلسفة".

وقد عبّر البعض من الفلاسفة الفرنسيّين المعروفين من أمثال جان -لوك نانسي،وميشال دوغي عن مساندتهم المطلقة لجان بيار فاي. وفي هذه المرّة، لم يعد جاك دريدا الوحيد المتّهم ب"نازيّة "هايدغر، بل وأيضا كلّ من ليفيناس، وجان بول سارتر، وميشال فوكو إذ أن هؤلاء الثلاثة ظلّوا مفتونين بصاحب"الوجود والعدم" على مدى خمسين عاما "غاضّين الطّرف" عن دفاعه عن النّازيّة، وعن سكوته عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبتها في حقّ الإنسانيّة. ومبرّرا مثل تلك التوجّهات، قال جان-كلود ميلنر :”علينا ألاّ ننسى بأنّ الفلسفة الفرنسية قبل الحرب الكونيّة الثّانية كانت نوعا من السّايكولوجيا التّجريبيّة العاجزة عن طرح القضايا الأساسيّة.لذا كان عليها أن تبحث عن مصادر خارج فرنسا. ولم تجد تلك المصادر إلاّ في ألمانيا حيث قدّم لها هيغل المفاهيم. أمّا هايدغر فقد قدّم لها الأسلوب". ويقدّم ماتيو بوت-بونفيل الذي شغل منصب مدير المعهد العالي للفلسفة، مبرّرا آخر قائلا:"هايدغر عبارة عن خطّ هروب. وفلسفته مطواعة بما يكفي لكي يجد فيها كلّ مفكّر الأدوات الصّالحة لتطوّره الخاصّ به"