ما يفتنني لدى الأمريكي جيم هريسون المولود عام 1938 والمتوفي في ربيع عام 2016، هو حبه للطبيعة وللفضاءات الشاسعة في "ميشغن" حيث ولد ونشأ، وأحب الغابات الدّاكنة، وصيد الأرانب والطيور، والتجول على ضفاف الجداول والأنهار. وكل هذا وَلّدَ لديه شغفا بالمغامرة حتى أنه يكاد يوحي لنا من خلال كل ما يكتب من قصص وروايات هو أن المغامرة هي المصدر الأساسي والجوهري لكل إبداع حقيقي وأصيل. وقبل وفاته قرأت لهذا الكاتب الذي كان يقبل بجنون على ملذات الحياة فلا يفرط فيها أبدا، قصة طويلة حملت عنوان :”السابح في النهر". بطل هذه القصّة أمضى فترة من حياته على ضفاف النهر يصطاد السمك، ويسبح في الصيف، ويتجول في المركب في بقيّة الفصول. في سنّ السابعة عشرة ،أحبّ فتاة تدعى فراندلي فرانك غير أن أباها غضب غضبا شديدا عندما اكتشف ذلك، وأمره بحزم أن يبتعد عن إبنته وإلاّ فإن العاقبة ستكون وخيمة. بعدها أحبّ هذا الفتى فتاة تدعى اميلي ، وهي إبنة مقاول ثريّ . معها تبدأ حياته الحقيقية التي أرادها ان تكون على ضفاف النهر، وسط الطبيعة الساحرة بعيدا عن صخب المدن. ومعلقا على هذه القصة قال جيم هريسون بإنه نشأ وسط الطبيعة. لذلك كان يرى أنه لا يختلف عن العصافير وعن الأسماك .ومرة سأل والده عن الفرق بين الحيوانات وبين البشر فأجابه قائلا :”هي-أي الحيوانات -تعيش في الخارج ونحن نعيش في الداخل". لذلك هو يحسّ دائما أن الطبيعة هي بيته المثالي.
ومنذ عقود طويلة اختار جيم هريسون، &خصوصا بعد حصوله على الشهرة، أن يعيش في بيت ريفي تحيط به الغابات والسهول الشاسعة. وهو يحب صيد الطيور، والسباحة في النهر، &والتجوّل في الغابة في أوقات الفراغ. وهو يميل إلى التفكير والتأمّل وهو جالس امام الأفق العريض المنفتح أمامه. وعندما يكون في مثل هذه الهيئة، ينسى مشاكل العالم والحروب المشتعلة هنا وهناك، والسباق المحموم نحو الثروة والجاه والمجد. ففي قلب الطبيعة ينسى الانسان وحشيّة الانسان الآخر، وأنانيّته المفرطة، وأمراضة المعقّدة. ويضيف جيم هريسون قائلا :”أنا أعجب من أمر شيوخ وعجائز أثرياء يملكون شققا هائلة الاتساع في قلب مدن كبيرة مثل نيويورك ،ودائما يتذمّرون ويريدون المزيد! أما أنا فأكتفي بالعيش في قلب الطبيعة بصحبة الكتب والموسيقى التي تعجبني". وعن المشاكل الجنسية التي تكثر في قصصه ورواياته، يقول جيم هاريسون:” حياة الأمريكييّن الجنسيّة تقليدية لذا هي مثيرة للحيرة. وأنا أتجادل دائما مع الناشرين بخصوص بعض المشاهد الجنسية في رواياتي، وفي قصصي. فهم يعيشون في نيويورك ولا يقرؤون سوى "النيويورك تايمز" من دون أن تكون لهم أدنى فكرة عن حالات الفسق والفجور في ثقافتنا. وهم لا يقرؤون الصحف المحليّة التي تتحدث عن جرائم واحداث غريبة، وعن علاقة جنسية بين قسّ وفتاة في الثالثة عشرة من عمرها. وأعتقد أن الجرائم الجنسية كانت دائما وأبدا موجودة في كلّ الثقافات والحضارات رغم القوانين ورغم التعاليم الأخلاقيّة الصارمة".
وهو على أبواب الشيخوخة قال جيم هريسون :"الأفضل أن يتجاوز الكاتب أناه عندما يتقدم في السن. فالبساطة والتواضع هما سمتا المبدع الحقيقي. وأنا سعدت جدا عندما بلغني أن فيليب روث فضّل في النهاية الانقطاع نهائيّا عن الكتابة. أما أنا فلست قادرا على أن أفعل ذلك لأني لا أجد للحياة مذاقا ومعنى من دون الكتابة". ويضيف جيم هريسون قائلا :” لست خائفا لا من الشيخوخة ولا من الموت. فأنا الآن عجوز ودائما أقول في ما بيني وبين نفسي :”لا أحد ينجو من الموت!”. وكل كائن حيّ مكتوب عليه أن يقضي ذات يوم".&
وبالفعل، واصل جيم هريسون الكتابة حتى النهاية. وقبل شهرين من وفاته، أصدر كتابا بعنوان :”المهرج العجوز"، وفيه يستعرض بضمير الغائب أحداثا ولحظات من حياته في أطوار، وفي أماكن مختلفة. وفي بداية الكتاب يشير جيم هريسون إلى أنه كان قد كتب مذكراته عند بلوغه سنّ الستين. وكان يعتقد أنه لن يعود إلى ذلك مرة أخرى. لكن عند بلوغه سن الخامسة والسبعين، شعر أنه عليه أن يضيف أشياء أخرى لمذكراته القديمة ما دام الموت قد وفر له فرصة القيام بذلك. ويقول هريسون إنه كان سيختار " العجوز النغل"، لأن النغل أو إبن الزنا يشبه الكاتب الذي في فترات التركيز على أعماله ينسى جذوره وحتى أقرب الناس إليه. لكن في النهاية اختار أن يكون عنوان كتابه:” العجوز المهرج" .ولعل اختياره لهذا العنوان يعود إلى حادثة عاشها في طفولته . فقد كان في المدينة برفقة عائلته لما سمع أن الكثير من الناس يرغبون في مشاهدة عرض لمهرجين مسرحيين. ورغم أنه كان يعاني من مخلفات نزلة صدرية حادة، فإنه كذب على والديه قائلا لهما أنه في صحة جيدة، وبالتالي باستطاعته مرافقتهما إلى العرض. وفي القاعة، داهمته الحمى فأخذ يتقبـأ مُحدثا ضجّة عالية أجبرت المهرجين على إنهاء عرضهم. وقد ظلت صورة المهرجين تفسد نومه بكوابيس مرعبة حتى عندما غدا عجوزا. وفي كوابيسه كان يصيح فيهم :”كفوا عن تعذيبي!”. عندئذ ينسحبون ويختفون في الظلمات.&
ومرة أخرى يعود جيم هريسون إلى سنوات طفولته ليروي فقدانه لعينه اليسرى بسبب قطعة من الزجاج رمته بها فتاة صغيرة كانت تلعب معه. وكان &آنذاك في الرابعة عشرة من عمره.&
ويعترف جيم هريسون أن الشيء الذي أفزعه أكثر من غيره هو فقدانه لقدرته الجنسية وهو على أبواب السبعين. ورغم أنه التزم بنصائح الطبيب ، وخفف من التدخين ومن شرب الكحول القوية فإن ذلك لم ينفعه إذ أنه وجد نفسه أكثر من مرة عاجزا عن النوم مع إمراة رغم جمالها وشبقيّتها. فإن أفلح في ذلك، قذف بسرعة لكي تتركه المرأة وهي في حالة من الاستياء والامتعاض من رجل فقد فحولته. وقد حفزه عجزه الجنسي على تذكر ماضيه الحافل بالمغامرات مع طالبات جميلات، ونساء مُغتلمات كنّ يمنحه متعا غريبة وعجيبة. ومرة أخذ فتاة إلى غابة وكان قد نزع سروالها الداخلي، لما هاجمتهما زوجته ببندقية ، ففرت الفتاة المسكينة عارية !
ويتحدث جيم هريسون عن حبه للكلاب حتى أنه بكى بحرقة موت كلبة تدعى "أليس". وبعد أن دفنها واضعا صليبا على قبرها، رثاها قائلا :”كان سعيدا بألّا يفصل حياته الخاصة عن حياة "اليس" .أو حياة غراب أو كلب. ومع مرور السنوات، عندما يموت واحد من كلابه، كان يقول في نفسه بإنه ربما كان عليه أن يرافقه في تلك الرحلة، وكان تطابقه مع الحيوانات يدفعه إلى الانتحار. إلاّ أنه كان يُحْجم، بطبيعة لحال، عن تنفيذ ذلك، غير أن موت "أليس" أوجعه كثيرا. التفكير في رواية لم تكتمل بعد، أو في مقطع من واحدة من قصائده في طور الإعداد، منعه من مرافقتها. لكن هذا منشؤه الغرور. فكما لو أن العالم لا ينتظر سوى كتبه! وقد يكون ذلك عائدا إلى مشاعره الدينية. لماذا يعتقد أنه أهم من الآخرين؟ يكفي أن ندْرُسَ تاريخ العالم بما فيه الكفاية لكي نعرف أننا جميعا محكومون بالموت ، بمن في ذلك الكتاب، ونقصان تواضعهم المعروف جيّّدا". ويواصل جيم هريسون كلامه قائلا:” كان يعلم منذ زمن بعيد أن التواضع هو القيمة &الأفضل والأسمى &التي يمكن أن نتصف بها. وإلاّ فإننا نكون ضحايا الطموحات والأحلام الواهية لفترة الشباب. من الذي أقرّ أن يكون الكتاب أكثر أهمية من مصير الإنسانية؟ شكسبير والبعض من العباقرة يمكنهم أن يحصلوا على هذا الشرف ، إلاّ أن ملايين آخرين يسقطون في فراغ النسيان".&
وفي إحدى الفترات انخفضت مبيعات كتبه حتى أنه بات يواجه شبح الفقر والخصاصة. ولمعالجة ذلك، اشترى هريسون ضيغة مقررا أن ينصرف إلى تربية الخنازير فلعله يكسب ما يخلصه من ذلك الوضع الخطير. وفعلا ظل منشغلا بتلك الضبعة أشهرا طويلة، شاعرا بالسعادة بالعيش بين المزارعين، متشمما عطر الأرض. &بل أنه فكر في أن الحياة مع الخنازير يمكن أن توحي له برواية جديدة عابقة بالحس الإنساني ،أو بقصيدة. فالشعر دائما وأبدا يغريه منذ أن قرأ كبتس وهو في الرابعة عشرة من عمره. وقد تكون بداية كتابة قصيدة صعبة إذ أن الكلمات بعد بيت واحد قد تفر فيصعب عليه المسك بها، وترويضها. وكم هي القصائد التي ظلت من دون اكتمال! لكن عندما يتمكن من إذلال المصاعب، &تتدفق الكلمات سلسة وعذبة ، يشعر هو أنه يسبح في السعادة، وسرعان ما ينسى عذاباته. وآلامه. &ومرة كان جيم هريسون في باريس التي يعتبرها أجمل مدينة في العالم، وكان الثلج يتساقط بغزارة. وفي لحظة ما، شرع يقلب أوراق دوّن عليها قصائد قديمة. عندئذ قفزت إلى ذهنه ذكرى بعيدة. فقد كان في الرابعة عشرة من عمره. وكان جالسا يتأمل نجوم الليل وهو ترجف في السماء. وها أن &مشاعر غريبة لم يسبق له أن عرف مثيلا لها تنبجس في قلبه وتدفعه إلى كتابة أول قصيدة في حياته. منذئذ قرر أن يكون كاتبا، وأن لا يدع لحظة الكتابة تمر لتختفي فلا تعود أبدا . فالشاعر الحقيقي كما يقول رني شار، لا بدّ أن يكون جاهزا للقصيدة لحظة ولادتها مثلما يكون الخباز جاهزا للخبزة وهي تخرج من الفرن. ويشير جيم هريسون أن الشعر هو جوهر الحياة . لذا لا يستطيع الشاعر أن يكتب إلاّ عندما يكون واعيا بما هو أفضل في التاريخ البشري. ومرات كثيرة رافق أصدقاء له لصيد الأسماك في النهر. وكانوا هو يحملون معهم مجلات جنسية . أما هو فيحرص على أن يكون مزودا بأنطولوجيات الشعر الصيني أو الروسي. ويكتب جيم هريسون قائلا:” حين يزعم أحدهم أنه شاعر، فإنه يتوجب عليه ألاّ يتخفى في الأركان المعتمة مثل فأر مذعور، أن يمشي مُتَغنّجا مثل قحبة يابانية. الأمر الجوهري والأساسي هو أن يعتبر نفسه شاعرا حتى قبل أن يكتب قصيدة واحدة، جديرة بالقراءة، واعتمادا على قوة خياله، يدع تلك الكرة النرجسية في حالة طيران دائم ومستمر. وأنا تجاوزت العقبات بفضل نصائح جيدة، وأخرى سيئة، أفضلها "رسالة إلى شاعر شابّ لريلكه.أما النصيحة الأسوأ التي التزمت بها بنوع من التزمت فهي نصيحة رامبو التي تدفع بك إلى تصور أن الحروف لها ألوان، وأنه علينا أن نمارس تخريب توازن حواسنا جميعها لكي نشرف على الجنون. لكني تمكنت من أن أنقذ نفسي بطريقة جيدة. وأفضل نصيحة للشعراء هي ألاّ يتبرجزون. فحتى ذلك الرجعي كيتس أعلن أن العائلة أخطر من الكحول". ويقر جيم هريسون أن الإقبال على الكتابة أصبح نادرا بالنسبة له عندما تقدم به العمر. لكن ذاكرته ظلت متوقدة، &وصامدة أمام ضربات الزمن القاسية .وها &أنه يرى بوضوح الماضي، كما يرى"صعوده وانهياره". و هو يكتب قائلا:” الانهيار سهل ومريح. فنحن نتوقف بكل بساطة، ونغفو، ونخرج عن السكة". ويضيف جيم هريسون قائلا:” أحيانا نحن نظلّ جامدين تماما أمام ألغاز وجودنا، متسائلين لمَ نحن هناك حيث نحن، بمواجهة طبيعة جليّة لرحلة أفضت بنا إلى الحاضر. وهذا الجمود ليس أمرا غريبا ولا مفاجئا إذ أن أغلب الحيوات لا تواريخ لها جديرة بأن تسجل وتُدوّن، أو أنها تتزين بأحداث تكون بمثابة أكاذيب".&
&