الى احسان فتحي

تتوق المدن، اليوم، ان يكون "ماضيها" المَبّني حاضرا، بشكل وبآخر، ضمن نسيج تخطيطها الحضري المعاصر. وتنفق الدول اموالاً (واحيانا اموالاً طائلة!) لتحقيق ذلك التوق "المديني" المشوب بالحس الجمالي، الذي يذّكر سكنتها بايام مدينتهم الخوالي؛ تماما مثلما يسعى الفرد الى تذكّرماضيه وطفولته. ويتولد لدى سكان المدن احساساً بالفخر والمتعة وهم يشاهدون رموزا ومعالم ماضية تدلل على احداث قديمة ولافتة للاهتمام، مرّ بها تاريخ مدينتهم وعايشها اسلافهم من قبل. وكثيرا ما وفرت تلك الرموز والاثر المبنية الباقية شهادات ملموسة عن مستوى النجاحات المعمارية التى حدثت ماضياً، وبالتالي فانها، وفي غالب الحالات، تلعب دورا مهما بكونها خزّاناَ معرفيا للكثير من التجارب والمحاولات البنائية والمعمارية الرائدة التى شهدها مسار تطور مدينتهم المعماري. بتعبير آخر، يعمل وجود المباني القديمة في المشهد الحضري، ليس فقط على توطيد ربط "اواصر" الماضي بالحاضر، وجعل الذاكرة المدينية تتسم على حيوية متجددة؛ وانما يشي ذلك الوجود بامكانية الاستفادة من ذلك الحزين المعرفي والمهنى والانطلاق بهما نحو آفاق تصميمية جديدة تكون عادةً منتمية الى خصوصية المكان، ومترعة بذائقته الجمالية!
تعتبر فعالية حفاظ الابنية القديمة وترميمها واعادة "اميجها" الاصلي، ورفع التجاوزات التى لحقت بها عبر عقود من السنين من ضمن إطروحة حضور المعالم التاريخية الماضية في النسيج التخطيطي الحضري. وبالنسبة الى "الحفاظ المعماري" تحديدا، فقد شهدت العقود الزمنية القليلة الماضية تجارب عديدة في ادراك مفهوم ظاهرته كاحدى المقومات الاساسية لتلك الاطروحة. كما تعددت قراءة مفهوم "الحفاظ"، وتنوعت اساليب تجلياته في نسيج مدن مختلفة، طبقاً لمرجعياتها الثقافية المتنوعة ولخصائصها الجغرافية المتباينة. ونقرأ، حالياً، تفسيرات شتى تخص ذلك المفهوم ونسعى وراء ادراك كنه المهني والمعرفي. وفي هذا الاطار تنزع مدينة "كوبنهاغن" عاصمة الدانمرك الى اجتراح <معنى> خاص له، نراه جديرا بالانتباه والدرس، ضمن "قراءات" متشعبة وعديدة لذلك المفهوم. فغير بعيد عن وسط المدينة التاريخي، ثمة ضاحية سكنية وهي حيّ: "نو بوذيا" Nyboder التاريخي، (وتعني "الاكشاك" الجديدة، أو "السقائف" الجديدة)؛ تنزع لتكون مثالاً مميزاً في التعاطي مع اشكالية مفهوم الحفاظ المعماري في البيئة الحضرية المعاصرة. يعود تاريخ تلك الضاحية الى سنة 1631 عندما امر الملك "كريستيان الرابع" (1577 – 1648) بتشييد مخطط اسكاني في تلك المنطقة "النائية" وقتها، عن وسط المدينة، وتكون مخصصة باكملها الى سكن منتسبي القوة البحرية الدانمركية وعوائلهم. كان ذلك القرار، لحظة فارقة في العمارة الدانمركية (وتحديداً في نوعية تابلوجيتها الاسكانية)، ان كان ذلك لجهة نوعية الممارسة التصميمية، ام لناحية التنفيذ. اذ عدّت نتائج ذلك المخطط بمثابة مدينة داخل مدينة!
لم يبق من ذلك المخطط الاسكاني، في الوقت الحاضر، سوى "بلوك" سكني بطابق واحد (كما كان مصمماً اول مرة). وهو لايزال يشغل بذات "الوظيفة" الاسكانية التى صمم من اجلها قبل حوالي اربعة قرون! فلقد تم توسيع المخطط سنة 1758 باضافة صفوف من الابنية الطويلة مؤلفة من طابقين تحتوي على شقق سكنية ضمن ما يعرف "بالدور السكنية المتجاورة" Row Houses .صممها المعمار الدانمركي المعروف حينذاك "فيليب دي لانغا". وعماد هذا المخطط مجموعة "بلوكات" سكنية مزدوجة ومتوازية فيما بينها وذات اطوال متباينة نوعا ما، تخلق بمحاذاتها شوارع طويلة ايضا، ويفصل ما بين "بلوك" وآخر من تلك الكتل الاسكانية المزدوجة فضاء وسطي مفتوح (دعي بحديقة الكرنب <الملفوف>)، يمتد على طول ذلك الصف الاسكاني، مهمتة توفير الانارة والتهوية للشقق السكنية وتزويد ربات البيوت باحتياجات مزروعة للتدبير المنزلي.
ثمة تجربة نادرة يمكن للمرء ان يحس بها عندما يتجول في امكنة حي "نوبوذيا" السكني القديم وطرقاته. اذ سيلاقي "الماضي" بكل مفرداته واجوائه التى "تتمثله" تلك البلوكات السكنية، وتجسده بواجهاتها التقليدية وبمقياسها المتواضع وتفاصيلها البنائية القديمة وبلونها "الماضوي" المميز. وما عدا وجود السيارات الجديدة الواقفة امام مداحل تلك الدور، ومرور الفتيات والفتيان، الذين يرتدون ملابس اخر صرعات الموظة، تكاد ازقة الحي المرصوفة بالحجارة وفقا لاساليب الرصف العتيقة والمجهزة بمفردات "اثاث" حضري قديم، فضلا على تفاصيل لوازم البيوت السكنية الماضية "واكسسواراتها" الممعنة بالقدم، يكاد ان يكون كل ذلك جزءا من مشهد ماض مستل من "ظرف" تاريخ بعيد ومنصرم! وعادة ينتاب الشخص احساسا مثيرا لا يخلو من متعة جراء القيام بتلك "الجولة" الزمنية الفاصلة ما بين حقبتين. وهو ما شعرت به ، شخصياً، وانا اتجول و"اصور" مشاهد تلك البيوتات وعناصرها التصميمية الغارقة في قدمها؛ وخصوصا عندما وقفت امام ذلك النموذج النادر والوحيد الباقي من مجموعة ابنية يرجع تاريخها الى اربعة قرون خلت، وما فتئ ذلك "المبنى" يقوم بوظيفته اياها: وظيفة السكن، كما كان يجري في القديم.
وبتوسع العاصمة الدانمركية في كل الاتجاهات، ضمن عقود زمنية عديدة، وجدت ضاحية "نوبوذيا" نفسها جزءا لا يتجزأ من ما يعرف بمفهوم وسط المدينة التاريخي. وتحيط به الآن ابنية حديثة نوعا ما، مخصصة لمكاتب مشهورة ومبان سكنية راقية، خاصة بسكن النخبة الكوبنهاغنية (وبالمناسبة يطل على الحي مبنى مقر السفارة العراقية في الدانمرك). ويعد الحيّ، الآن، من الاحياء السكنية المميزة، الذي يجد رواجا للسكن فيه مثلما يحظى بسمعة عالية، تجعله من احد اهم احياء كوبنهاغن المرغوبة سكنياً والعيش به، خصوصا وهو يمتلك في الوقت الحاضر تجهيزات ولوازم خدمية مضافة جد معاصرة مكنت الفضاء الداخلي في تلك الدور السكنية القديمة تلبية احتياجات السكن المعاصر واشتراطاته الحداثية.
وفي العموم، يعطي وجود الابنية "المحافظ عليها" ولاسيما اذا كانت ضمن مجمع بنائي متكامل (كما هو الحال في تجربة مدينة كوبنهاغن بالدانمرك)، وليس مقتصراً على مثال واحد قديم، يعطي ثراءا بصريا لا يضاهي للمشهد الحضري في تلك المدن، كما يمنح وجود تلك الابنية القديمة الى سكنة المدينة وزوارها احساسا صميميا مشوب بالحميمية، وهم في "ضيافة" تاريخ المدينة، "يقلبون" صفحات "سردية" ذاكرتها الحاضرة عبر رؤية وتأمل شواهدها المعمارية العتيقة.&
معمار وأكاديمي

الصور:
1- حي "نوبوذيا" السكني، 1758، احد ابنية مجمع الحي، منظر عام.
2- حي "نوبوذيا" السكني، 1631، المبنى الوحيد المتبقي من المجموعة السكنية الاولى، منظر عام.
3- القديم والجديد: حي "نوبوذيا" السكني القديم والمباني الحديثة المجاورة له، منظر عام.
4- حي "نوبوذيا" السكني، 1758، احد ابنية مجمع الحي، تفصيل.
5- حي "نوبوذيا" السكني، 1758، احد ابنية مجمع الحي، منظر عام.
&