في خريف عام 1988،كنت في القاهرة بصحبة فريق من التلفزيون الألماني لإنجاز فيلم وثائقي عن الكاتب الكبير نجيب محفوظ .وخلال الأسابيع الثلاثة التي أمضيتها هناك التقيت بالعديد من أدباء مصر وشعرائها.وكان الشاعر محمد عفيفي مطر الذي تعرّفت عليه في بغداد واحدا من هؤلاء. وأذكر أنني كنت شديد الحرص منذ البداية على الإلتقاء بصاحب :”الجوع والقصر". لذا سألت عنه حال وصولي الى القاهرة ،فبلّغت أنه يعيش في قريته "رملة الأنجب" بمحافظة الممنوفية، وأنه يأتي إلى العاصمة مرتين في الشهر ليتزوّد بالكتب والمجلاّت، وليلتقي بأحبائه وأصدقائه،ثم يعود الى مزرعته الصغيرة حيث يعيش عيشة الفلاحين البسطاء، يخدم الأرض، ويغرس الأشجار، ويربّي الحمَامَ،،ويعدّ العسل، ويرعى البقر، ويقرأ ويكتب بعيدا عن صخب القاهرة، وعن معارك مثقفيها التي لا بداية لها ولا نهاية.

وقد ساعدني أحد الأصدقاء على الإتصال به فجائني الى مقهى "ريش" بشعره الرمادي الأشعث، وبوجهه الأسمر الذي لوّحته الشمس، وتركت عليه التجارب والمحن ملامحه. ومان يرتدي ثيابه القروية البسيطة التي تفوح منها رائحة أرض النيل.تعانقنا بحرارة ،وسمعته يقول لي ضاحكا:”يا واد ...يا شيطان ..ما الذي جاء بك الى هذه البلاد؟"...

وقبل أن ألتقي بحمد عفيفي مطر في العاصمة العراقية التي أمضى فيها سنوات طويلة فارا من نظام السادات ،كنت أتصوّر أنه "شاعر عبوس" مثلما وصفه ذات مرة الدكتور لويس عوض الذي كتب عنه أروع الدراسات وأعمقها.فالقصائد التي كنت قد قرأته له في بداية اكتشافي له، ولعالمه الشعري، كانت شديدة الغموض، والتعقيد، وعليها تخيّم وحشة قاتمة يندر وجودها عند أيّ شاعرمن أبناء جيله.لذلك لم يكن باستطاعتي أن أفكّ رموزها إلاّ بصعوبة شديدة. وقد ساعدني د.لويس عوض على فهم عالمه الشعري الذي يتغذّى من التراث الصوفي،ومن الفلسفة الإغريقيّة.وفي حين اختار الشعراء المعاصرون له سواء من مصر، أو من البلدان العربية الأخرى التعبير بشكل مباشر الى حدّ ما عن الفواجع والكوابيس العربية ،كان هو يلجأ الى الأقنعة والرموز. وهذا ما فعله في العديد من قصائده. .وقد كتب عن هزيمة 67 انطلاقا من فلسفة "أمباذوقليس" اليوناني الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد وكان متعدّد المواهب .ومن بين الأساطير التي تروى عنه أنه صعد الى جبل في صقلية ،ثم ألقى بنفسه في بوهة بركان لكي يتّحد بعناصر الطبيعة الأربعة التي هي النار،والماء،والهواء،والتراب. وفي قصيدة أخرى هو يستعين بمحاكمة غيلان الدمشقي الذي كان قد انحاز الى المستضعفين بعد أن كان يؤمن بمذهب "الجبر"الذي يقول بإن الإنسان مسيّر لا مخيّر.ويشير المؤرخون الى أنه كان مؤثرا في فكر واصل بن عطاء ،مؤسس مذهب المعتزلة. وقد أباح الإمام الأوزاعي دم غيلان الدمشقي فأعدمه هشام بن عبد الملك عام 722. وفي قصيدة نشرت في ديوانه "النهر يلبس الأقنعة"، يصبح عفيفي مطر كلّ الشعراء الذين أحبهم.فهو امرؤ القيس، وهو النفري، وهو علقمة الفحل، وهو السهروردي، وهو كل الشعراء المشردين ،المنفيين ،الملاحقين والمطاردين والمقتولين .

وصحيح أن محمد عفيفي مطر "عبوس" في أشعاره التي تعكس واقعا عربيا مريرا، ومحنا قاساها الشاع، غير أنه كان لطيف المعشر، حاضر النكتة، طيّب القلب، يضحك مثل طفل بريء،ولا يعبأ بهموم الحياة رغم أنه ذاق أمرّها. وهذا ما أثبته لي في تلك السهرة الرائقة في مطعم على شاطئ النيل. وعلى مدى ساعات طويلة ،راح يحدثني عن الشعراء الذين حاربوه،ونغّصوا عيشه،وتنافسوا على حرمانه من خبزه اليومي .كما حدثني عن الشعر في معانيه الإنسانيّة العميقة .وفي نهاية السهرة،أوقف تاكسي.أعطى السائق جنيها ،وقال له بلطف:”من فضلك ..خذ هذا الضيف العزيز الى فندق هيلتون النيل!”