إن المجتمعات الإنسانية لا تُبنى على الوهم والأهواء الشخصية ، وإنما تُبنى على الظواهر العقلية القادرة على صناعة نظام التحولات الاجتماعية ، الذي يَنقل الأفكارَ المُتناثرة مِن الفوضى إلى النظام ، ومِن الارتجالية إلى التخطيط . وهذا الحراك الفكري البَنَّاء يَصنع عَالَمًا معرفيًّا مِن الحقائق الاجتماعية ، والتصوُّرات النَّفسية ، والسلوكيات الإنسانية . الأمر الذي يُؤَدِّي بالضرورة إلى إنتاج لُغة جديدة في أنساق المجتمع ، تقوم على الوَعْي والحوار الهادئ ، ولا تَقوم على التناحر والضجيج . وإذا نَجح المجتمعُ في ابتكار لُغته المنطقية الخاصَّة بِه ، استطاعَ تَكوينَ شخصية اعتبارية لحاضره ومُستقبله ، قائمة على غَرْبلة تُراث الماضي ، والتعامل معه بإنصاف، بدون تقديس أعمى، ولا قَطيعة عِدائية . والتُّرَاثُ إسهامات بشرية تشتمل على الصواب والخطأ . واللغةُ المجتمعيةُ المنطقية تتعامل مع التُّرَاث باعتباره نظامًا مِن المعارف والرموز والبُنى الفكرية المُنعكسة عن الواقع المُعاش والبيئة المُحيطة ، وهذا البناء التُّراثي المعرفي يَحتاج إلى أدوات فاحصة ، واختبارات عقلانية ، ومنهج نقدي تحليلي ، للوقوف على مواطن القوة ، والاستفادة مِنها للانطلاق نَحْو المستقبل بلا خَوف ولا قلق ، وللوقوف على مواطن الضعف ، وتجنُّبها ، وأخذ الدروس والعِبَر مِنها لضمان عدم تكرارها .
وإذا أردنا بناءَ منظومة الاختبارات المَوضوعية في تراكيب التُّراث ، فلا بُد مِن دراسة البُنية الاجتماعية كنسق مِن التحولات المعرفية ، قائم بذاته، ومُنفتح على خصائص العواطف الإنسانية ، والأشواق الروحية، والنَّزعات المادية، لأن التَّوفيق بين الرُّوح والمادة هو أساس التفاعل الرمزي ، الذي يَصنع قوانينَ المجتمع العقلية ، ويُحدِّد طبيعةَ مساره المنطقي.وإذا اتَّحدت الظواهرُ العقلية معَ الأنظمة الاجتماعية المنطقية، تشكَّلت الكَينونةُ الاجتماعية الاعتبارية ، التي تتجلَّى في وُجود مجتمع حَي وحُر وذي شخصية مُستقلة . وهذه العناصر الوُجودية ضرورية لتكوين جوهر الحقائق الاجتماعية، الذي يقوم على الأدلة والبراهين، ولا يتأثَّر بالمصالح الشخصية الضَّيقة ، والمُحاولاتِ المُغرِضة لإعادة إنتاج الإنسانية كأيديولوجية عنيفة تُعادي وُجودَ الإنسان .
ووظيفةُ المجتمع المُتصالح مع نفْسه، والمُتحرِّر مِن الخَوف والقلق،هي تحريرُ الإنسان مِن المعاني الزائفة، والوجودِ الوهمي ، والمُسلَّماتِ الافتراضية غير المنطقية ، ودفعُ الإنسان باتِّجاه قيم التسامح بلا ضَعف ، وهذا يَمنع الإنسانَ مِن التَّحَوُّل إلى ذِئب لأخيه الإنسان .
والإنسانيةُ تعني قَتْلَ الوحش داخل الإنسان ، واجتثاث هِستيريا التَّوَحُّش مِن الوَعْي السلبي، والشُّعورِ العنيف، والإفرازاتِ المُسيَّسة الصِّدامية للتاريخ والجُغرافيا. ولا تَعني الإنسانيةُ قَتْلَ الحضارة ، وتدميرَ المَدنية ، وتَدجينَ الإنسان.وكُلَّما ابتعدت الحضارةُ عن الدم والجماجم واستغلال الآخرين ، اقتربَ الإنسانُ مِن معنى الوجود ومركزية الوَعْي . وهذا يُساهم في اكتشافِ الإنسان لإنسانيته ، والتصالحِ مَعَ نفْسه ، وإيجادِ حالة مِن الوئام بين مُكوِّناته الروحية والمادية ، وتجذيرِ السلام بين اللفظ والمعنى داخل أفكاره المنطقية وعناصرِ لُغته الاجتماعية .


كاتب من الأردن