بقلم غمكين مراد

لكُلِّ رُّوحٍ ألامُها، لكُلِّ ألمٍ معنىً يُرَوِّضُ الجسدَ حَمّالُ تلك الرّوح، لكُلِّ معنىً حياةٌ مُتَشَبِّعَة مغروزةٌ فيها ألسِنَةُ نارُ الحُرقةِ في الرّوح، مُتَوَجِعَةً كمنبعٍ وكمصبٍ في كونِ الجسد.

لكُلِّ ألمٍ سيرَتُهُ وفي كُلِّ سّيّرةٍ تاريخٌ لأنفاسِها تَسْرُّدُ تفاصيل الرّوحِ في ارتعاشاتِها بوخزاتِهِ، بنيرانِهِ، بطعناتِهِ، بِصَلْبِهِ للرّوح، بِفنائِهِ للجسد.

كُلُّ ألمٍ تاريخُ أنفاسٍ على صفحةِ الهواء وتاريخُ ارتعاشاتٍ على صفيحِ الحياةِ الساخِن وتاريخُ رّوحٍ هي مثلُ فانوسٍ يُضيءُ بِحَرْقِها.

دافيد لوبروطون (بروتون) في كتابِهِ " تجربةُ الألم بين التحطيمِ والانبعاث " يُشخِّصُ الألمَ مَرَضياً، طبيعياً (ألمُ الوضع)، ثقافياً، طقسياً، عقائدياً، هوياتياً، روحياً،....... مُلاحِقاً عذابَ ألمٍ ولُذةَ آخر، ساعياً إلى البحثِ في ماهيّةِ تحطيم بعض تجارب الألم الشخصَ فيما بعضُها الآخر تَبْنيِه.

في هذهِ الكتابة لن أُحايثَ كُلّ الآلام التي شَخَصَها لوبروطون وإنمّا فقط أُحاكي تجربة الألم كتعايُش مُسْتَنِداً إلى ما قالهُ هو بأنَّ: " الألمَ لا يقبلُ البّرهَنَةَ، وإنمّا يُعاشُ كتجربة" وكيف يتمُ مُحاكاةُ هذا الألم وإزالَتِهِ بالاحتواء كجزءٍ نَحِنُ إليه ونشتاقُ حينَ يُغادِرُنا، وكيف تصبحُ الرّوحُ جائعةٍ خاويةٍ حينَ يهدأُ الألمُ أياً كان المُصابُ الذي وَلَّدَهُ واقعياً في الجسد ورمزياً في الرّوح ومن ثم لا يعودُ صداهُ ينبَعُ مما يَعْتَرِّكُ في داخِلنا الخاوي: " الإحساسُ بالألم ليسَ تسجيلاً لتأثرٍ مُعين بقدرِ ما هو الصدى الداخلي لمُصابٍ واقعي أو رمزي".

للألمِ حينَ نُعايشُهُ عالِمُهُ الخاص، احتياجاتُهُ، أحاسيسُهُ، مُحاكاتُهُ الخاصة ومن ثم الشغف في وخزاتِهِ والاستغناءِ عن كُلِّ الخارِجِ من العالمِ، وهُنا تَكْمُنُ مُفارَقَةُ الألم: " في كونِها تَمْنَحُنا الإحساسَ بأنَّنا أحياء ونقيمُ الحدود الفاصِلةَ بين الذاتِ والعالِم".

حينَ تكون في الألم لا كَمُتّضَرِّرٍ ولا هو كمُتَطَفِّلٍ وإنما يكونُ هو فيكَ الخالِقَ لحياةٍ بأبوابٍ لا تجتازُ إلا عتباتِها غيرُ آبهٍ بأبوابِ الحياةِ حينَ تُرْعِشُ فيكَ الجسدَ وتُرقِصُ الرّوح آهاتٍ آهات، بعذابٍ لُذةٍ ووجَعٍ نَشوةٍ، وتُحَلِّقَ أنتَ بذاكَ الألمِ في قصائدَ شِّعرٍ أو جنائنٍ راقِصةٍ داخِلّكَ، ناسيّاً كُلَّ ما عداكَ، مُدْرِّكاً ما أنتَ فيهِ وما أنتَ عليهِ وما أبْعَدَّتهُ مما لا تستهويهِ كَكُلِّ حياةِ الخارِجِ مثلاً:" الألمُ تفكيكٌ جَذري لبداهةِ العالِمِ وفقدانٌ لدلالتِهِ وقيمتِهِ، يُحيلُ الوجودَ إلى حِملٍ ثقيل".

هي ليست حالةٍ مازوشية في احتواء الألمِ والتلذُذِ بِهِ، وخلقِ حياةٍ بهِ ومعهُ، وإن يكن المازوشي رافِضاً لألمٍ جاهِلٍ عنهُ وبهِ، وإنما هي حالةٌ مُعايشةٌ كامِلةُ الإيمان وعميقةُ المعنى.

نعم كتابةُ الحياةِ مع الألمِ وبهِ هي معنىً رّوحي تزدانُ به الحياةُ في داخِلِنا بأعمقِ الأثر وأعمقِ الخَلْقِ وأعمقِ البقاء، مُتطَهرينَ من عذاباتِ الخارِجِ وحياتِهِ ومن آلامٍ تَطْعَنُكَ دونَ أن تخْلِّقَ أو تُسَطِّرَ على صفحةِ رّوحِكَ أيَّ معنى:" فالألمُ مثل باقي الإدراكات الحسية ليسَ تسجيلاً لمُعطى جسماني، وإنما هو تأويلٌ وترجمةٌ في عباراتٍ حميمية لِتَشَوِّهٍ قاسٍ للذات".

" حيثما يكونُ الألم أكونُ أنا" هكذا يَرِّدُ على لسانِ فريدزورن في متنِ الكتاب، فالألمُ حينَ يكونُ خلاصاً ويؤدي إلى إعطاءِ الحياةِ كيمياءَ معنى، ويكونُ الألمُ مُثارٌ بوجودهِ، وممتعٌ في سَرَيانِهِ رّوحاً وجسداً وهو في كُلِّ الأحوالِ أفضل من غيابِ المعنى الذي يُضفي على الألمِ ذاتُه عذاباً إضافياً، يتحولُ حينئذٍ الألمُ إلى هويةِ الشخص ليُصارِعَ الإحساسَ بالنَّفْس ومن ثمَ الإحساسَ بالوجودِ، ومن خلالِ هذه الهويةِ والتي يُعرِّفُ بهِ مُتألِماً يتعاطى الحياةَ كمُتعةٍ دونَ خوفٍ أو وجَل من حميميةِ النهايةِ وإنمّا لُذةِ اللحظةِ المُعاشةِ بِكُلِّ حيثياتِها وبِكُلِّ تفاصيلها وبِكُلِّ مآلاتِ الخلقِ الموحيِّةِ لها دغدغاتِ الألمِ في الجسدِ بانكسارِهِ وفي الرّوحِ بارتعاشتِها.

الكتاب: تجربةُ الألم بين التحطيمِ والانبعاث

الكاتب: دافيد لوبروطون

ترجمة" فريد الزاهي

الناشر: دار توبقال للنشر ط1 2017