بماذا يتسم منتج العمارة المعاصرة اليوم؛ ماهي مرجعية هذا المنتج المثير واحيانا .."الفضائحي"؛ ما هي الاهداف المتوخية التى يصبو اليها المعماريون المعاصرون في اجتراحهم لابداعاتهم التصميمية، بل كيف ينجز العمل المعماري اليوم، ومن هم "صُناعه"! والسؤال الاهم، هو هل ان تلك التساؤلات وغيرها بالطبع، (بالاضافة الى اجاباتها)، قادرة على رسم بانوراما الخطاب المعماري المعاصر، ذلك الخطاب المتسم على تعقيد شديد وتناقض كثير؛ هو الذي "فاق" توقعات المعمار "روبرت فنتوري" عندما لمس ذات يوم، من سنين الستينات، حضور اهمية "التعقيد والتناقض" في المنتج المعماري المستقبلي، بعيداً عن "اوهام" الحداثة ومبادئها المعروفة، كاشفا الطريق، بوقت مبكر جداً، عن عمارة جديدة تنطوي على قطيعة معرفية ومهنية مع كل ما كان معروفا وقتها من قيم ومألوفاً من مبادئ ، عمارة رأى المنظر العالمي المعروف بانها آتية لا ريب في ظهورها ونفوذها وانتشارها!

لكن مجموعة التساؤلات التى طرحناها اعلاه، والتى هي انعكاس لما يمور به الخطاب المعماري المعاصر من تساؤلات، فضلا على تعددية اجاباتها، لا يمكنها، في اعتقادنا، ان تقدم ايضاحات كافية عن طبيعة ذلك المنتج المعماري، مثلما ليس بمقدورها ان تفسر لوحدها نوعية تلك الحالة الابداعية او ايجاد الذرائع لها. والإشكال ليس في طرح تلك التساؤلات، وإنما "المشكل" يكمن في "تعددية" ذلك الخطاب، اذ ليس من ثمة "خطاب" واحد، موحد، او جامع؛ وإنما الخطاب المعماري المعاصر يشي بـ <العديد> من "الخطابات"، وكل واحد منها يعمل بمعزل عن مقاربة الآخر، واحيانا، بالضد منها. ناهيك عن حضور بيّن، لما بات امرا عاديا في الممارسة المهنية، من ما يسمى بـ "االتهجين" او "التطعيم" الابداعي، وهو نوع من ممارسة مهنية، تتحدد "مخرجاتها" من تأثيرات تعود الى خصائص انشطة ابداعية آخرى. جدير بالذكر ان طبيعة تلك "المخرجات"، لا تشبه ممارسة اقحام خصائص عمل ابداعي على عمل ابداعي آخر، وانما تكون صنيع ابداعي لا تمت البتة الى سمات كلا العمليين الابداعيين المختلفين. فعلى سبيل المثال يمكن ان يكون "العمل" الابداعي، وليد تأثيرات <العمارة> مع <التصميم> Design، فلا هو "عمارة"، ولا هو "تصميم"، وانما عمل هجيني جديد. او يتأسس ذلك النشاط من "تلقيح" النحت مع العمارة، او اية انشطة ابداعية متنوعة ومختلفة. كما لا يتعين التغاضي عن مؤثرات خاصية العصر الذي نعيشه، عصرالتقنيات المتقدمة وتوسيع انماط استخداماتها في تغييرطبائع الحياة المعاشة واحتياجاتها. والعامل الاخير يعد، الآن، عاملا اساسيا لجهة "تنظيمه" العمل المعماري وتحديد مخرجاته، وتأثيره لناحية توسيع الافكارالرائدة وجعلها متاحة للكثيرين، او ما اطلق عليه، شخصياً، تعبير "العبقرية المشاعة"، وهو تعبير أُريد به اظهار خصائص العصر التى تجعل، بوقت قصير ومفاجئ، كثراً من المهتمين في النشاط الإبداعي، "نجوماً" ساطعة في المشهد المعماري وبغيره بغض النظر عن جغرافية أمكنة المناطق التى يتواجدون فيها، او خصوصية انتماءتهم الاثنية اوالدينية، والاهم تجاوز "تابوهات" مدد الخبرة المهنية، والتبجح باولوية الاحتراف المكتسب.

تعد سيرة المعمار الدانمركي الشاب (ولد في الثاني من أكتوبر سنة 1974) "بياكه انغيلس" Bjarke Ingels مثالاً جيدا ومعبرا في آن، عن حالة "بزوغ" باهرة لـ <نجومية> معمارية لامعة في المشهد المعماري المعاصر، التى تحدثنا عن ظهورها قبل قليل. فالمعمار الذي انهي تعليمه عام 1999 من مدرسة العمارة في كوبنهاغن (المدرسة التى عملت، شخصيا، فيها باحثا لحوالي عقد من السنين)، سرعان ما يشترك في مسابقات معمارية ويفوز بها. ثم ينتقل للعمل في مكتب عالمي بهولندا، ويعود مرة اخرى الى كوبنهاغن ليشترك في البدء مع زملاء له في تأسيس مكتب معماري، ولاحقا يؤسس مع زملاء آخرين مكتبا خاصا به وبزملائه باسم <بيغ> BIG: "مجموعة بياكه انغيلس" Bjarke Ingels Group (BIG) . والمكتب الاخير، بالوقت الحاضر، يعد واحدا من اشهر المكاتب المعمارية العالمية، وله فروع بالعديد من مدن العالم: في نيويورك وشنغاي وطبعا في كوبنهاغن، ويعمل فيها مئات من المعماريين والمصممين والمهنيين. بيد اني، هنا، لا انوي الحديث، الآن، عن تجربة "بياكه انغيلس" المتألقة، اذ سأترك ذلك لوقت آخر. ما اود ان اشير اليه الآن، هو الحديث عن احد مشاريع مكتب "بيغ" BIG المميزة في الفضاء الكوبنهاغني، وهو مشروعه المثير: "اسكان الجبل" Mountain Dwelling ، او ما يعرف بـالدانمركية بـ "البيذ" Bjerget، وتعني <الجبل>.

ما يميز مشروع "اسكان الجبل"، هو <سرديته>: السردية التى بمقدورها ان تؤسس لنفسها فضاءا معماريا استثنائيا، يمكن به "استنطاق" تلك السردية، وتحويلها الى مفردات لغة تصميمية مميزة. كان "اسكان الجبل" ينطوي على تحقيق مجموعة من شقق سكنية، بالاضافة الى تأمين مواقف سيارات لاصحاب تلك الشقق وزوارهم. كما اقتضى برنامج المشروع بان يكون <ثلث> ( 3/1 ) المساحة المبنية مخصصة الى السكن و"الثلثين" (3/2) الباقيين الى مواقف السيارات. وبدلا من ان يشيد مبنيين منفصلين لتلبية متطلبات البرنامج، ارتؤي دمج هاتين الوظيفيتين بكتلة بنائية واحدة، ضمن "علاقة تكافلية" Symbiotic relationship، كما دعاها المعماريون؛ على ان ترتقي تلك العلاقة لتكون بمثابة "ثيمة سردية"المشروع الاسكاني الاساسية! وان تكون عملية "الدمج التكافلي" ذاتها هي التى يعوّل عليها في خلق "حبكة درامية" مثيرة (ومطلوبة..ايضاً!) لتلك السردية المختارة. انطلق المصممون لتحقيق ذلك، من واقعة بان مواقف السيارات يتعين ان تكون مرتبطة مع الشوارع المحيطة، في حين يفترض بالسكن ان يتوجه نحو نور الشمس، ويسعى للحصول على هواء نقي، ويؤمن رؤية المناظر المجاورة. ماذا لوكانت مواقف السيارات، تساءل المصممون في "سرديتهم" المفترضة، تعمل كـ "اساس" او قاعدة Foundation لـ "تلة" مغطى سفحها بطبقة خفيفة من شقق سكنية، موضوعة بشكل متتالي Cascading ، ومرتبة بنمط تعاقبي، تمتد من الطابق الاول نحو الطابق الحادي عشر وهو مجمل ارتفاع "التلة" السكنية. علما ان المصممين اهتدوا لجهة تكثيف تأثير تلك "الحبكة"، عو طريق اصطفاء نموذج سكن الضواحي الريفي ليكون نمطا لنوعية السكن الحضري في مشروعهم الاسكاني؛ جاعلين لكل شقة في ذلك المجمع، "حديقتها" الخاصة بها، بحيث يكون سقف الشقة السفلى، "موقعا" لحديقة الشقة الى تعلوها! وفي النتيجة ، فنحن ازاء مجمع لشقق "معلقة" على سفح جبل، يضفي حضورها لمسة خاصة: مميزة واستثنائية، على خاصية طوبوغرافية ارض كوبنهاغن المستوية المعروفة بخلوها من تضاريس مثيرة، مثلما نحن في "حضرة" مشهد، يمزج مابين مزايا اسلوب البناء في الضواحي مع منافع خاصية الكثافة الاسكانية الحضرية, ولاجل زيادة "جرعة" التذكير بمفردة "الجبل"

كخاصية للمجمع الاسكاني وعنوانا له، فقد لجأ المصممون الى تغطية طوابق موقف السيارات بشاشة معدنية مثقبة، ترمز رسوم سطحها الواسع الى مناظر مستوحاة من جبال الهملايا وقمتها في "إيفرست"!

ومرة اخرى، يثبت معماريو مكتب "بيغ" بان معطى"الافكار" السردية المفترضة، بمقدوره ان يضحى مرجعاَ تصميمياَ، يضفي القا واثارة على المنتج التصميمي المعاصر، الذي استفاد (.."ويستفيد" كثيرا) من تطور الفكر الهندسي والتقني، وتنوع المقاربات المعمارية، الخالقة لذائقة جمالية تستوعب مخرجات ذلك التطور، وتتبنى تنويعات تلك المقاربات الزاخر بها المشهد المعماري الراهن.□□

معمار وأكاديمي


الصورة: منظر لمجمع اسكان "البيذ" <الجبل>، (2008)، المعمار: مكتب "بيغ" BIG، كوبنهاغن.