نقطة في العمق

فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ طَافَ أَسْرَانَا عَاصِمَةَ الْعَدُوِ مُلَوِّحِينَ بِقُبَّعَاتِهم لِجَمَاهِيرَ عَلَى الْجَانِبَيْنِ، تُرَدِّدُ أُغْنِيَاتٍ عَنِ الْحَنِينِ، وَعَنْ نُقْطَةٍ فِي الْعُمْقِ يَصْعُبُ الْوُصُولُ إِلَيْهَا. قَدَّمَتْ طِفْلَةٌ الْوُرُودَ لِأَسِيرٍ، اِقْتَسَمَ طِفْلٌ قِطْعَةَ بسكويت مَعَ ثَانٍ، وَأَشْعَلَتْ مُرَاهِقَةٌ لُفَافَةَ تَبْغٍ لِثَالِثٍ. أَمَامَ كُلِّ هَذِهِ الْحَفَاوَةِ لَمْ يَجِدْ كَبِيرُ الْأَسْرَى سِوَى نَظَراتِ الْاِمْتِنَانِ يُوَّزِعُهَا عَلَى الْجَمِيعِ. بِوُصُولِ الْمَوْكِبِ إِلَى الْمَيْدَانِ الْكَبِيرِ رَجَاهُ الْمُحَافِظِ أَنْ يُزِيحَ السِّتَارَ عَنْ جَدَارِيَّةٍ مُعْلِنًا بِفَخْرٍ تَغْيِيرَ الْاِسْمِ إِلَى مَيْدَان الْجُنْدِّي الْأَسِير؛ فَعَلَا الْهِتَافُ وَالتَّصْفِيقُ، ثُمَّ تَسَيَّدَ الصَّمْتُ بِخُطُوَاتِ كَبِيرِ الْأَسْرَى إِلَى الْجَدَارِيَّةِ وَبِنِزُولِ السِّتَارِ شَيْئًا فَشَيْئًا، سَقَطَ الْجَمِيعُ فِي الْبُكَاءِ... كَانَتِ الْخُطُوطُ شَدِيدَةَ الصَّرَامَةِ و الْأَلْوَانُ زَاهِيَةً، وَ لِسَبَبٍ مَا عَمَدَ الْرَسَّامُون إِلَى اِسْتِبْعَادِ كُلّ الْمُجَسَّمَاتِ الْبَارِزَةِ.


حصار

قَضَتْ مَدِينَتُنَا الشِّتَاءَ تَحْتَ حِصَارٍ هَبَطَ بِمِيزَانِنَا الْتُجَارِي إِلَى دَرَجَةِ الصَّفْر، حَتَّى الْمُنْتَجَاتِ الصِّينَيَّةِ الرَّخِيصَةِ مَنَعُوا دُخُولَهَا..
فِي أَوْقَاتٍ كَتِلْك كَانَ الْوَاحِدُ يَسْتَمِدُ الْعَوْنَ بِالنَّظَرِ الْمُبَاشِرِ فِي عَيْنَيَّ مَنْ بِجِوَارِهِ، دُونَ اِسْتِدْعَاءِ أَدْنَى نَأْمَةٍ لِلْوَقَاحَةِ. وَكُنْتُ أَقْتِلُ الْوَقْتَ وَالنَّقْصَ الْحَادَ فِي الْمُؤَن بِالسَّيْرِ كُلَّ أَصِيلٍ فِي الظِّلَالِ الْبَاهِتَةِ لَلْأَسْوَارِ، أَسْأَلُ فَتَاةً عَنِ الْوَقْتِ فَتَنْظُر فِي سَاعَةِ يَدِهَا...
كَانَتْ مُتْقَنَةَ التَّقْلِيدِ وَذَاتَ مِعْصَمٍ ذَهَبِيٍّ.

كما ترون
مَا إِنْ اِنْهَارَتِ الْمُقَاوَمَةُ، وَصَارَتْ كَلِمَةُ الْعَدُوِّ هِيَ الْعُلْيَا حَتَّى غَرَقَتِ الْمَدِينَةُ فِي الْاِحْتِفَالَاتِ، كَانَتْ الْلَيَالِي الْأُولَى تَكْرِيمًا لِلْخَوَنَةِ و الْمُتَعَاوِنِين، وَالْلَيَالِي التَّالِيَةُ كَانَتْ لِلْأَحْيَاءِ مِنْ رِجَالِ الْمُقَاوَمَةِ، صَافَحَهُمْ قَائِدُ الْعَدُوِّ بِمَوَدَّةٍ صَادِقَةٍ وَتَوْقِيرٍ مَلْحُوظٍ، وَحِينَ ازْدَهَرَتْ فِي الظِّلِّ الْآَمِنِ لِسَرْمَدِيَّةِ الْكَرْنَفَالَاتٍ جَسَارَةُ الْاِسْتِفْسَارِ بِشَأَنِ الْمُصَابِينَ وَالشُّهَدَاءِ سَادَ صَمْتٌ وَاشْمِئْزَازٌ أَنْهَاهُ قَائِدُ الْعَدُوِّ بِخُطْبَةٍ هَادِئَةٍ قَالَ فِيهَا:
كُلُّ مَا أَسْتَطِيعُ تَقْدِيمَهُ لِلْمُصَابِينَ السَّمَاحُ لَهُمْ بِالتَّسَوُّلِ فِي سَلَامٍ، أَمَّا الشُّهَدَاءُ فَقَدْ أَفْسَدُوا كُلَّ شَيْءٍ، وَكَمَا تَرَوْن _ مُشِيرًا بِيدِهِ إِلَى سَمَاء تَسْتَتِرُ خَلْفَ حِبَالٍ تَتَدَلَّى مِنْهَا مُثَلَّثَاتٍ مُلَوَّنَةٍ _ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ يَسْتَحِقُّ كُلَّ هَذَا الْعَنَاءِ.
منتصر عبد الموجود