هو موقن أنها نفس الحالة التى مر بها منذ نصف قرن عندما كان مراهقا فى أواخر العقد الثانى، أيامها لم يكن يستطيع وصفها فلم تكن له حصيلة من المفردات التى تعبر عنها ولا حصيلة من المشاعر التى تصفها، الان يستطيع، فقد أصبح شاعر وقاص، لكن واجهته مشكلة فالطعم مختلف تمام الاختلاف، الاولى كانت مشاعر بكر عفوية يشوبها احمرار الوجنات والخجل والتردد، أما الثانية فهو يعتقد أنه متماسك يتصرف بحكمة صياد محترف يعرف كيف يلقى الشبكة، الاولى كانت فى أيام أقصى وسيله للتواصل فيها كانت ورقة بها بعض الكلمات المبعثرة مدسوسة بين صفحات كتاب بين الحصص، أما الثانية فالمجال لانهائى فى الليل والنهار، الاولى كانت المواجهة بين شاب وشابه أو صبى وصبيه بلا فارق فى سن ولا خبرة، أما الثانية فالفارق هائل أربعة عقود فهو فى منتصف الستينات وهى فى منتصف العشرينات، فارق آخر رئيس بين الحالتين فى الاولى كانت مشاعره حرة طليقة أما الثانية فهو زوج وأب وجد، أى رب عائلة مستقرة مشهود له بالالتزام والحكمة وكثيرا مايستشار فى مشاكل أسرية تكلل مجهوداته احيانا بالنجاح .
من هنا بدا الصراع محتدما فكيف لهذا الرجل الوقور ــ وكان موظفا كبيرا ذا شأن ــ أن ينزلق الى هذه المغامرة الخطرة بكل المقاييس ــ ثم ماهو الهدف منها، وماهى نهايتها المرتقبه، ثم كيف لهذه المشاعر أن تتسلل خلسة الى قلبه المنهك بهذه السرعة المذهلة، ثم نظرات زوجته المريبة والعبارات المبهمة التى لم يتبينها حين رأته يشرع فى اصلاح دراجته القديمة ــ ليتريض قليلا فى الصباح ــ على حد زعمه، وعندما داعبه الحلاق على ملاحظاته المتكررة على طريقة تصفيف شعره (على غير العادة) شعر بحرج شديد وبدا كما لو كان الجميع يعلمون بأمره ومايمر به، وعندما زادت نوبات خفقان قلبه بكر بزيارته الروتينية لطبيبه وأذهلته عبارات الطبيب المطمئنة وكان يمت له بصلة قرابه (قلبك رجع شباب ياعمو ).
كانت الحالة ممتعة بكل المقاييس، خرج من روتينه اليومى، عاد يستمتع بنشوة الانتظار مكالمة أو لقاء أو رسالة، نسى كل أمراضه ونسى مواعيد أقراص علاجه وانفتحت شهيته للحياه، اشترى ملابس جديدة .
لكن كان أشد مايقلقه هو صراع الثالوث البشرى داخله، قلبه وعقله وجسده، قلبه الذى عاد ينبض بقوة من جديد بعد موات، وعقله الهائج عليه بموجات عتاب قاسية ، ثم جسده الحائر بين مشاعر سامية واشتهاء مستتر خجول، وماكان يقلقه أكثر هو التساؤل الذى يلح عليه بين الفينه والفينة والذى اعتاد ترحيلة وماذا بعد ؟وأحيانا يبرز معه التساؤل الأخطر ماذا لو انكشف سر هذه العلاقة ؟ وكيف يبرر موقفه أمام الجميع أبناؤه وزوجته وحتى أحفاده، وكيف سينهار صنم التعقل والرزانه والحكمة الذى عبدوه جميعا من عقود، مؤكد أنه لايحتمل هذا الموقف المهين سيسقط ميتا لامحاله، وأمام كل هذه المخاطر الجمة فقد آن الأوان لوضع حد لهذه المغامرة البالغة الخطورة، واليوم استجمع قواه واتخذ القرار ، وهو لم يعد يحصى عدد المرات التى اتخذ فيها هذا القرار، ثم جاء صوت الهاتف النقال بالنغمة المحببة حينئذ رقص قلبه وتم تأجيل القرار لحين اشعار آخر.