اعتدنا منذ ان شببنا على حبّ القراءة واقتناء الكتب ان نخلق علاقة حميمة بيننا وبين الكتاب ، وكم سهرنا الليالي الطوال ونحن نضمّ هذا الصديق الأليف بين صدورنا ونقلّب أوراقه ونتلذذ بتصفحه وكأن شميم ورقه يشبه أنفاس حبيبةٍ تختلط بأنفاسنا ونأخذه بالأحضان وهو يغذّينا وعياً وثقافة وتهذيبا .
إلا اننا الآن بدأنا نتآلف مع كيبورد اللوح الالكتروني رغم سكونه الفجّ وبرودته ، وغداً او بعد غد سوف ننسى ارتعاش الروح في الكتاب الورقي ونفتقد الإحساس الجميل والتفاعل الحميمي الذي يبعثه الورق فينا .
هذا الكتاب الذي نحبه ونعشق إضمامته الى صدورنا سيودعنا الى غير رجعة في غضون السنوات القليلة المقبلة ويؤذن بالرحيل عاجلا وسوف يسلّم عهدته الثقافية الى صديقنا الجديد الكتاب الالكتروني لتختفي الأوراق والمحابر والمداد وتتراءى لنا الشاشة في اللوح الالكتروني بدلا من الصفحات الورقية ومجلّدات الكتب التي أفرغت جيوبنا وأخذت مساحات ليست قليلة من بيوتنا على شكل مكتبات ذات رفوف قد تصل الى السقف لكنها ملأت عقولنا ثراءً معرفيا .
غير اننا الان نستطيع حمل مئات الكتب ونضعها في لوح إلكتروني لا تزيد مساحته سعة حقيبة يدنا وربما تندسّ في جيب بنطالنا قطعة فلاش تحوي خمسة الى عشرة كتب وهي بوزن قطعة نقدية معدنية ، وقد نشتري حزمة من الكتب التي تفوق الألف ببخس ثمن وأقل من سعر كتاب او كتابين ورقيين غاليين بحيث لا نُفرغ جيوبنا من مال قد نحتاجه لإدامة صحتنا وترتيب حياتنا المعيشية وبنفس الوقت لا نثقل بيوتنا بمساحات ورفوف عالية ومكلّفة لتسكين الكتب الورقية .
ولا أغالي لو قلت ان المكتبات الكبيرة في بناياتها والتي كنا نرتادها في بغداد مثل المكتبة الوطنية والمكتبة المركزية وحتى المنتشرة في الأحياء ، او القريبة من الجامعات سيتم تحويلها الى أغراض أخرى بما في ذلك المكتبات القائمة في الشوارع الثقافية حيث ستتحول الى محلات صغيرة لبيع مستلزمات العولمة الالكترونية بدءاً من الفلاشات الصغيرة جدا والأقراص المدمجة والتلفونات والألواح الالكترونية والمطابع وغيرها .
سنقول لاحقا وقريبا جدا وداعا ايها الناشرون لا لقاء بعده بكم ، فقد أرهَـقَـنا جشعكم المالي ومللنا مواعيد عرقوب التي صارت لازمةً في أحاديثكم وأضاليلكم ووداعا آخر لزيارة معارض الكتب فلم تعد أقدامنا تحثّنا على ضرورة الحضور إليها واقتناء ما نريد وسوف نشتري الكتاب الذي نودّ اقتناءه من معارض الأمازون والنيل والفرات وغيرها الكثير الكثير ونحن نتكئ على سريرنا دون ان نحث الخطى الى مكتبات المتنبي والنهضة والمثنّى والتحرير ومكتبة فلسطين ودكاكين سوق السراي التي بدأت تمتلئ بمستلزمات الكتاب الالكتروني .
ألا ترون معي ان غالبية زوّار متنبي بغداد هذه الأيام لم تعد تعنيها شراء الكتب الاّ النزر اليسير جدا ، وما زياراتهم المتكررة أيام الجمعة خاصةً إلاّ للتنزه في أثَـرٍ وإرثٍ يوشك ان يزول ويغلق أبوابه كما غلقت أبوابها صحيفة الاكسبريس الأميركية مؤخرا واحتجبت عن الصدور ورقياً ووخزت قرّاءها كلاما لاذعاً في عددها الأخير قائلةً : نتمنى ان تستمتعوا بلوحاتكم الالكترونية الحقيرة .
قريبا سنهيئ قصائدنا نحن الشعراء الحزانى فاقدي الكتاب الورقي الصديق الاوفى وسوف نطبعها في تلفوننا الذكي ونقرأ شعرا في باحة وحدائق " القشلة " لنرثي الكتاب ؛ تماما كما كان أجدادنا الشعراء الأوائل يبكون على أطلال حبيباتهم . فمَن يراهنني على يقيني الأكيد ؟؟ .