كثيرة ومتشعبة هي نماذج منتج العمارة الاسلامية التى استطاعت بابداعاتها ومهارتها ان تثري ذخيرة العمارة العالمية، وتضيف اليها اضافات مهنية رصينة. بيد ان أهم ما في تلك "الاضافة" النوعية هي، في اعتقادنا، فاعلية تلك النماذج البارعة وتأثيرها على المنتج المعماري اللاحق، سواء كان محلياً او اقليميا وحتى عالمياً. وهنا، كما نرى، تنبع الأهمية المضافة لتلك العمارة، ولقيمة منجزها المعماري والعمراني الحصيفين. وبغية الاحاطة بخصوصية تلك النماذج المعمارية، علينا، في البدء، التعرف عليها وإظهارها للملأ، وادراك ما تمثل، وما يختزن جوهرها من مبادئ وقيم. بيد اننا نعتقد بان تلك المهمة ستنجز على ما يرام، متى تمت معرفة ذلك المنتج بصورة شاملة ودقيقة. وسيكون ادائها مؤثرا بعمق لو أضفنا، أيضاً، الى ذلك تبعات مفهوم "اعادة القراءة" من خلال توظيف ادوات النقد الحداثي القادرة على الحفر العميق في كنه ما تحقق تصميميا، ومن ثم تبيان قيمته الابداعية.
ومدينة "سامراء العباسية" (835 -892 م.) بنماذجها المعمارية الفذة، وتفاصيلها المتقنة والممتعة، ورائديتها في الجانب العمراني، والتوظيفات الخلاقة لمقياسها الضخم، ونجاحاتها التخطيطية، تحث على البحث عن تقصيات جديدة لامثلة تصميمية حدثت على ارضها لم تظهر كاملة بعد، وتغوي لاعادة قراءة ما هو معلوم ومكتشف. لكن الاهتمام بذلك المنجز المميز، لم ينل (..ويا للحسرة!) قدراً كافياً من البحث والدرس، لاسيما من المعماريين، رغم ان كثراُ من الاثاريين والمؤرخين وحتى اللغويين تناولوا موضوعة <عمران سامراء وعمارتها>، بيد انهم لم يوفوا حقها من العناية (الا القليل منهم)، بسبب نوعية "عقدة" الاختصاص وعدم الالمام بخصوصية الشأن المعماري والعمراني. كما يلاحظ عدم اكتراث "الدارسين"، احياناً، الى ربط المنجز المدروس بما قبله من اعمال، والاخذ في نظر الاعتبار تأثيرات اطروحة <السابق على اللاحق>، الذي بقدورها ان تفسر الكثير فيما يتعلق بالحدث المعماري السامرائي المًجترح.
لا ادعي باني عملي، الذي انوي القيام به، في هذا الجانب، سيفضي حتماً الى كشوفات مثيرة؛ لكني واثق، بان مثل هذا العمل (الذي انوي بذل اجتهادا خاصاً لتحقيقه حسب طاقتي ومقدرتي)، سيعمل على اثارة الاهتمام حول طبيعة ذلك المنجز الابداعي ويلفت النظر الى نجاحاته. وبهدف ان يكون العمل البحثي المهني، الذي اروم الاضطلاع به، شاملا للكثير من التساؤلات التى ارى في اثارتها، الحصول على اجابات مقنعة عن قيمة ومغزى ودلالات ومعان كل ما جرى على "الارض السامرائية" من احداث معمارية وعمرانية، فقد ارتيت بادئ ذي بدء ان اتناول قرار "نقل" العاصمة العباسية من بغداد وتشييد بديلها الجديد، وما ترتب على ذلك القرار من نتائج تخطيطية ومعمارية خطيرة، استطاعت ان تطبع المنجز المبني السامرائي بطابع خاص، اتسم على فرادة ابداعية! كما يتعين ان تدرك، بالوقت ذاته، قيمة تلك القرارات السامرائية في ضوء التجربة التخطيطية الاسلامية لمدن أُنشئت قبل "سامراء". وفي هذا الصدد تحضر "الكوفة" (638 م) وقضايا تخطيطها كمدينة اسلامية متكاملة بعد تأسيس البصرة (637) "المنقوص" (وفقا لتعبير هشام جعيط في بحثه القيم عن
الكوفة) و"واسط" (702 – 703م)، وطبعا حدث تأسيس بغداد (762- 766 م.) المهم والمؤثر، الذي استقت "سامراء" الكثير من قيمه التخطيطية، وطبعاً، مفرداته المعمارية. كما يتعين ان لا نغفل تجربة تمصير "الفسطاط" (641 م.) بمصر وكذلك "القيروان" (670 م.) بتونس. ان ادراك ما انجز في تلك المدن الاسلامية الاولى، من خطط ومفردات عمرانية ومعمارية، كفيل بتوضيح كثير من القرارات العمرانية التى اتخذت في سامراء ويفسر أهمية حضورها في المشهد التخطيطي لعاصمة العباسيين الثانية.
معلوم ان موقع "سامراء" الفسيح، الممتد حوالي 41 كيلو متر ونصف من الشمال نحو الجنوب، وعرضها الذي يتراوح ما بين 4 و8 كيلومترات (بحسب منظمة اليونسكو التى ادخلت المدينة عام 2007 في "سجل التراث العالمي" World Heritage List الواجب الحفاظ)، تتضمن، في الواقع: مدينتين هما "مدينة "سر من رأى" التى اسسها سنة 836 م. الخليفة المعتصم (796- 842 م.)، والمتوكلية التى اسسها سنة 859 م. شمال "سر من راى".الخليفة المتوكل (822 – 861 م.) ابن الخليفة المعتصم. وفي كلتا المدينتين اتخذت قرارات تخطيطية ومعمارية هامة وغير مسبوقة ايضاً. معروف ايضا ان ما يسم نوعية تلك القرارات، هو طبيعة "المقياس" الضخم المتخذ فيهما؛ وبالتالي فنحن ازاء تجربة تخطيطية نادرة، قل مثيلها في العالم، ان كان لجهة نوعية الشبكة التخطيطية التى وظقت كاساس للمخطط المديني، ام لناحية الابعاد القياسية للمفردات البنائية الضخمة لذلك المخطط الاستثنائي. ثمة شوارع وطرق عريضة وطويلة تتقاطع لترسم مخطط المدينة غير العادي، الذي "تمسكه" وترسخ من حضوره بالمشهد الحضري، مفردات معمارية ذات أبعاد جد كبيرة تتلائم على درجة كبيرة مع خصوصية المدينة الرحيبة. وسنأتي ، بالطبع، لاحقا على تفصيل ما تحقق عمرانيا ومعماريا، بالاضافة الى ما انجز من قبل خلفاء اخرين حكموا من سامراء. ونشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، بان طول "الشارع الاعظم" وهو احد اهم شوارع سامراء العديدة، يمتد لكيلومترات وبعرض يتراوح ما بين 50 الى 100 مترا مخترقا المدينة المترامية الاطراف من الشمال نحو الجنوب. كما ان ابعاد "مسجد الجمعة الكبير" <مسجد المتوكلية> (848 -852) الرئيسي في المدينة فاقت باطواله ليس فقط كل ما شيد سابقا، وانما ظل محتفظاً بارقامه القياسية حتى وقتننا الحاضر، بابعاد تقترب من 156 × 239 مترا. علما ان المسجد اياه كان يقع وسط اسوار خارجية "زيادات"، قدرت ابعادها وفق كثير من المصادر بـ 372 × 443 مترا، مما يرسخ وجوده كأكبر مسجد شيد على مرّ الزمن!
يشي المقياس الضخم المتخذ في تخطيط سامراء والابعاد الرحيبة القياسية لمفرداته المعمارية، بحضور حدث اساسي ومهم، وهو ان المدينة التى خططت بهذه الصيغة، وشيدت مبانيها بابعداها الواسعة، راعت، بالاساس، "نوعية" ساكن المدينة ومستخدم مبانيها، وهم <الفرسان>: ممتطو الخيول. نعرف جيدا ان واقعة تأسيس سامراء تعزى في الكثير منها الى تأثيرات العامل العسكري وطبيعة المقاتلين الساكنين في سامراء. اذ شيدت المدينة، كما هو معروف، لتأوي، اساساً، جنود الخليفة، الاتراك منهم على وجه الخصوص، وليس فقط مراعاة "المشاة" العاديين. ولعل هذا هو السبب الذي يوضح نوعية المقياس وطبيعة المقاسات الضخمة المستخدمة في تخطيط واختيار ابعاد مفرداته المعمارية. نحن، اذاً، ازاء حدث تخطيطي لمدينة عامرة، بل "لعاصمة الدنيا" (كما وصف سامراء، مرة، "متحف بيرغامون" Pergamon ببرلين/ المانيا المختص بالاثار الشرقية) استطاعت منذ قرون ان تولي اهمية مضافة الى مستخدميها وسكنتها من دون الاقتصار على الاهتمام بالمشاة لوحدهم! وهذا كاف وحده ليضفي على تخطيط سامراء بعدا حضريا متفردا ويكسبه ميزة استثنائية سابقة لعصرها. وبهذا الانجاز فان سامراء تعتبر اول مدينة قروسطية تراعي الحركة
السريعة في تخطيطيها. بمعنى اخر، قدمت سامراء من خلال إنموذجها التخطيطي البارع حلولا مبتكرة الى المدن التى ستأتي لاحقا بعدها بقرون ، والتى راعت في تخطيطها حدث ظهور "المركبت السريعة"، متجسدا في وجود "السيارة" بشوارع المدن، وما تلاه من تغيير جذري في مبادئ التخطيط الحضري والتقصي عن مقياس جديد للمباني فيها يتلائم مع خصوصية الحدث التخطيطي الجديد.
من جانب آخر، ثمة ممارسات بنائية عديدة اوضحها المشهد المعماري في سامراء، تحققت في تصاميم أبنية ذات وظائف جديدة، قد لا يكون لها مثيلا سابقاً في الممارسة التصميمية في كل منتج العمارة الاسلامية. وانا، أعني على سبيل المثال، نشوء "العمارة المشهدية" او العمارة المتعلقة بالاضرحة، وظهورها الاول في الممارسة البنائية الاسلامية، المتمثلة في مبنى "القبة الصليبية" (862 م.) بالجانب الغربي من سامراء؛ ذلك المبنى الذي عدّ ظهوره من اللحظات الابداعية النادرة في ذلك السجل المعماري الابداعي. معلوم ان تشكيلات اللغة التصميمية لهذا المبنى وموضوعته اثرتا لاحقا على مجمل العمارة المشهدية في عموم العالم الاسلامي.
كما عدت تجربة بناء قصور عديدة خاصة الى الخلفاء والى النخبة السياسية والعسكرية التى ابانتها الاعمال التنقيبية التى اجريت في المدينة، بمنزلة احدى مآثر عمارة سامراء المهمة وإضافاتها الى سجل منجز العمارة الاسلامية. وعطفاً على ما ذكر تواً، نود الاشارة هنا، بان التجربة السامرائية في هذة الحالة تأثرت بشكل وباخر بتقاليد تصاميم القصور المدنية التى ظهرت في ارجاء عديدة من العالم الاسلامي وفي الاخص نماذج "القصور الاموية" التى شيدت في بادية الشام ابتداءً من مطلع القرن الثامن الميلادي ولحين منتصف ذلك القرن. لكن هذا لايمكنه باي حال من الاحوال، ان يقلل من أهمية ما تم ابداعه على الارض السامرائية من كنوز معمارية خاصة بما يتعلق بعمارة القصور، وما تمتلكه من مقياس ومقاسات ضخمة. وقد بينت المكتشفات الاثارية التى اجراها كثر من المنقبين الاثاريين في الارض السامرائية، ولاسيما اعمال "ارنست اميل هيرزفيلد" (1879 – 1948) Ernst E. Herzfeld ما بين 1911 و1913، بان رغم التماثل التصميمي في عمارة تلك المنشاءات الذي نتحدث عنه مع نماذج التجربة الاموية؛ فان الحلول التكوينية – الفضائية لنماذج العمارة في سامراء، انطوت على خصائص معينة وسمت تقاليد الرسوم الحائطية بسمات محددة ومبتكرة، وجدت تعبيرا لها في اللوحات المرسومة على جدران فضاءات واحياز القصور السامرائية. ثمة تشابه، ربما، شمل احيانا نوعية "ثيمات" اللوحات الفنية المرسومة على الجدران ذاتها في كلا الموقعين، الا ان ما اجترحته سامراء كان جوا جماليا مختلفاً، وقد اضيف اليه انواع عديدة من الزجاجيات والاعمال المعدنية المليئة بها "انترير" تلك الاحياز المصممة. وسنأتي، بالطبع، في متن النص المؤمل انجازه، على تناول امثلة عديدة آخرى، تبين مدى تأثير ما تم تحقيقه سابقا على نماذج المدرسة السامرائية ذات اللغة التشكيلية المميزة.
وتبقى سامراء بمعالمها المعمارية المعروفة، وبما تخفيه ارضها من نماذج تصميمية غير مكتشفة (اذ وفقا الى منظمة اليونسكو فان 80% من المدينة الاثرية لايزال مطمورا ويحتاج الى تنقيبات مستقبلية)، تمثل حالة نادرة في سجل منتج العمارة الاسلامية، لما يمكن ان تضيف الى ذلك السجل من انجازات تصميمية لافتة. انها بتراثها المعماري المكتشف والمطمور يمكن لها ان تكون، ايضاً، شاهدا عن نوعية مآثر العمارة التى سبقتها: عن عمارة بغداد تحديدا، التى لم يتسن لنا مشاهدة نماذجها المبنية كاملة بحكم موجات التدمير المستمرة وسرعة زوال تلك الكنور المادية، ببواعث عديدة بضمنها هشاشة طبيعة المادة الانشائية الرئيسية
المستخدمة في البناء (وهي الطابوق)، أو بسبب نوبات الفيضان الدورية المدمرة، وانواع الغزوات والحروب والاوبئة التى تعرضت لها عاصمة الخلافة الاولى طوال تاريخها، ما ادى وعجل الى اندثار معالمها بسرعة. ان هذا الدور االمضاف لعمارة سامراء، سيضفي أهمية جديدة على ذلك المنجز المعماري البارع، ويجعل من دراسته بعمق امرا مطلوبا ومفيدا.
واذ سلمنا بان المنتج المعماري السامرائي، قد تأثر كثيراً بافكار معمارية وعمرانية سابقة له، فان هذا المنجز اللبيب والمتقن استطاع، لاحقاً، ان يؤثر هو نفسه على عمارات اخرى في امكنة عديدة من العالم الاسلامي. وتحضر هنا كمثال لذلك التأثير "مدينة الزهراء" (936 – 940 م.)، التى شيدها الخليفة عبد الرحمن الناصر بضواحي قرطبة بالاندلس؛ وقلعة الحمراء (منتصف القرن الثالث عشر) في غرناطة بالاندلس ايضاً، التى ساهم في بناء مبانيها ابو عبد الله الاول بن يوسف بن نصر الاحمر (1195 – 1273). كما تدين عمارة المباني المهمة التى بُنيت ببلاد ما وراء النهر، وفي "سمرقند"، تحديداً، ابان حكم "تيمور لنك" (1336 – 1405) واسلافه من بعده، الى تأثيرات واضحة لعمارة سامراء على القرارات التخطيطية والمعمارية لتك الحقبة التيمورية ومبانيها الضخمة.
وبغية اظهار مختلف النجاحات المتنوعة التى ارتهنت باسم سامراء وتاريخها الحافل بالعطاء، سواء كانت تلك النجاحات فيما يخص الجانب العمراني او المعماري او حتى التشكيلي، فسيكون امرا مفروغا منه تضمين النص الكتابي عرض رسوم لتخطيطيات مبان متنوعة شهدتها البيئة المبنية السامرائية. ولا يستقيم الحديث، بالطبع، عن العمارة والعمران، بدون حضور غني ومتنوع لمثل تلك المخططات الهندسية وعرض نماذج من تفاصيلها البارعة وبالغة الدقة، إضافة الى تقديم نسخ مرسومة خاصة باللوحات الجدارية التى كانت شائعة الاستخدام في "انترير" الاحياز الداخلية لمختلف فراغات المباني السكنية في سامراء. وسنعتمد على نتائج الدراسات الجادة التى قام بها الخبراء العراقيون مع زملائهم الاجانب. وسنعول كثيرا على زيارات ميدانية لمواقع سامراء المترامية الاطراف من اجل اعداد سجل تصويري شامل يظهر تلك النجاحات المعمارية ويبين تفاصيلها الحاذقة بصورة واضحة. ونطمح ان تكون اهمية وجود ذلك السجل التصويري بمنزلة المتن الكتابي وصنواً له، لما يتمتع به، كما نصبوا، من غزارة في الرسوم والمخططات وعديد الصور وتفاصيلها.
واذ نتوق لان يكون عملنا هذا، هادفاً وقادرا لاثارة الاهتمام حول "سامراء العمرانية" وتبيان نجاحاتها المهنية الحقيقية والكشف عن اضافاتها المميزة والرائدة التى اغنت بها ذخيرة العمارة الاسلامية وبالتالي اثرت ونوعّت منتج العمارة العالمية، فما هذا سوى جزء من "دين" تجاه تلك المدينة الرائعة، التى لم تأخذ حقها من الدرس والبحث والمتابعة الذي يليق بها وبمنجزها الابداعي الفاخر.□□

معمار وأكاديمي

الصور:
1- سامراء العباسية، منظر عام للمدينة التاريخية.
2- ملوية مسجد المتوكلية (848 -852 م.) سامراء
3- نموذج من اللوحات الجدارية في قصر الخليفة، سامراء
4- قصر العاشق (878 -883 م.)، سامراء ،الجانب الغربي.
5- مسجد الجمعة الكبير ومدينة سامراء صورة جوية تعود الى سنة 1912.
6- معرض: "سامراء مركز العالم"،