غالبا ما يبدي القراء كما النقاد شغفا وفضولا بشأن بدايات الروائيين الكبار الذين تركت أعمالهم بصمات واضحة في الذاكرة الإنسانية برمتها بحيث باتت هذه الأعمال مراجع أساسية لفهم الانسان والتاريخ وما يطرأ عليه من أحداث لا في هذا البلد أو ذاك، بل في جميع أنحاء العالم.
وللتعرف على بداياتهم، اخترت أربعة من بلدان ومن فترات تاريخية مختلفة.
الأول هو الاسباني ميغال دو سارفانتس (1547-1616) صاحب رائعة "دون كيخوتي" والذي يعتبره الكثيرون أحد مؤسسي الرواية الحديثة مع كل من الفرنسي رابليه، والفرنسي الآخر دنيس ديدرو. وكان سارفانتس قد انخرط منذ سنوات الشباب في الخدمة العسكرية ليحارب على جبهات عدة متنقلا بين أماكن مختلفة مثل قبرص، وإيطاليا التي خاض فيها معارك كثيرة فقد في إحداها يده اليسرى ، وتونس. وفي عرض البحر المتوسط قام العثمانيون بالقبض عليه وهو عائد إلى بلاده في زمن حروب القراصنة، ليمضي خمس سنوات في أحد سجون الجزائر العاصمة. وبعد اطلاق سراحه عاد إلى اسبانيا ليعيش أحداثا مريرة أخرى حيث اتهم بارتكاب جريمة قتل، وبالتزوير، والتحيل. وكان قد شارف على سن الستين لما أنهى "دون كيخوتي" لتحقق لها شهرة واسعة في بلاده، ثم شهرة عالمية لا تزال قائمة إلى حد هذه الساعة. وتخليدا له، أسست باسمه جائزة مرموقة تكاد تتساوى في قيمتها المادية والمعنوية مع جائزة نوبل للآداب. وتمنح هذه الجائزة سنويا لمشاهير الكتاب من اسبانيا، ومن أمريكا اللاتينية.
ويجمع كتاب سيرته على أن الفرنسي غوستاف فلوبير(1821-1880) الذي يعتبره بورخيس الأب الفعلي للرواية الحديثة انجذب إلى الأدب مبكرا، مبديا موهبة أدهشت عائلته. فقد كان في الثامنة من عمره لما شرع في استحضار أغلب فصول "دون كيخوتي" عن ظهر قلب. وكان يطلب من الخادمة أن تنطق بشكل صحيح الكلمات التي كان يتهجّاها أثناء القراءة قائلا بإن تلك الكلمات سوف تساعده حين ينضج على "الاستحواذ على العالم". وفي سن العاشرة بدأ يخطط للمستقبل معلنا أنه سيكتب مسرحيات مثل راسين وكورناي وموليير. بل أنه أخبر صديقا له أنه منشغل بكتابة مسرحية كوميدية. وبمناسبة عيد ميلادها، أرسل لوالدته قصة مستوحاة من التاريخ تروي تفاصيل جريمة سياسية اقترفت في فترة لويس الثالث عشر. وفي سن السادسة عشرة، أصبح يميل إلى الكتّاب المهتمين بتصوير ورواية أحداث عصرهم. لذا بدأ يتابع ما يحدث من حوله باهتمام شديد، مستمعا إلى أفراد عائلته وأقاربه وهم يروون تفاصيل حياتهم اليومية، أو يتناقلون ما يجري في البلاد من أحداث اجتماعية وسياسية وغيرها. وفي هذه الفترة كتب قصة عن امرأة تهان وتضرب يوميا من قبل زوجها. كما كتب قصة أ خرى فيها يستعرض البعض من ذكريات طفولته. وعند بلوغه سن السابعة عشرة، كتب عمله الأدبيّ الأول الجدير بالاهتمام، وكان بعنوان :" مذكرات مجنون". وفي بدايته كتب يقول :" هل سأكتب إذن قصة حياتي –ويا لها من حياة ...وهل أنا عشت حقا؟ أنا لا زلت صغير السن، وأنا أمرد الوجه، وبلا تجاعيد، وليس في قلبي مشاعر وانفعالات...آه.. وكم تبدو حياتي هادئة، وسعيدة، وصافية، وناعمة...آه...نعم، هي هادئة ، وصامتة مثل قبر تكون الجثة روحه".
وأما البولوني جوزيف كونراد(1857-1924) الذي اختار الكتابة بلغة شكسبير رغم أنه تعلمها وهو على مشارف سن الثلاثين، فقد عاش طفولة معذبة إذ أنه فقد والدته وهو في الثامنة من عمره. وبسبب معارضته للهيمنة الروسية، أمضى والده الذي كان يتقن اللغة الفرنسية ناقلا إلى لغته الأم " عمال البحر" لفيكتور هوغو، سنوات في السجن. وبعد وفاته، عاش جوزيف كونراد في كفالة عمه الذي كان ميسور الحال. وعند بلوغه السابعة عشرة من عمره، انطلق إلى مدينة مرسيليا الفرنسية ليصبح بحارا يجوب البحار والمحيطات التي ستحضر فيما بعد في جل رواياته المشهورة. وفي مرسيليا، اختلط كونراد بمجرمين، ومهربين، ومنفيين، وجواسيس. وكان يكثر من التردد على بيوت الدعارة، وعلى الملاهي الليلية. كما أنه عشق امرأة فائقة الجمال يقول البعض من كتاب سيرته بإنه حاول بسببها الانتحار.أما آخرون فيزعمون أنه تخاصم مع عشيق لها فأطلق عليه هذا الأخير رصاصة كادت تضح حدا لحياته. وخلال سفراته البحرية، تعرف كونراد على جزر وعلى بلدان كثيرة. كما أنه سافر إلى الكونغو ليكتشف اهوال وجرائم الاستعمار البلجيكي حيث كان أهالي البلاد يعاملون مثل العبيد، ويموتون بالآلاف سنويا بسبب الإرهاق، والجوع، والمظالم المسلطة عليهم من قبل البيض الذين كانوا ينهبون خيرات بلادهم لإرضاء شهوات وغرائز الملك البلجيكي ليوبولد. ومن وحي تجربته المريرة تلك، كتب كونراد فيما بعد رائعته " قلب في الظلام" التي حولها المخرج الأمريكي الكبير فرانسيسكو كوبولا إلى فيلم لعب دور البطولة فيه النجم االشهير مارلون براندو، وحاز على شهرة عالمية واسعة.
وفي سنوات شبابه، كان الايرلندي جيمس جويس (1882-1941) مشاغبا مشهورا في مسقط رأسه جبلن. وكان شديد الاعتداد بنفسه، وبثقافته الواسعة حتى أنه كان يسمح لنفسه بالسخرية والاستهزاء من أعلام الثقافة والأدب بمن في ذلك الشاعر الكبير ويليام بتلر ييتس الذي كان أول كتاب بلاده يحرز على جائزة نوبل للآداب.
وفي سن مبكرة، اهتم جيمس جويس ببلورة أفكاره وآراءه بشأن. وفي العشرين من شهر جانفي-يناير 1900، ألقى محاضرة في جامعة دبلن، حدّد فيها رؤيته لكتابة مجموعته القصصيّة الأولى: “أهالي دبلن"، قائلا:" علينا أن نستخرج من رتابة الحياة الحزينة، عناصر دراميّة. بإمكان الإنسان العادي للغاية، والأشد مواتا بين الأحياء، أن يلعب دورا مهمّا في دراما موجعة ومؤلمة". وفي مقال نشره جويس في عدد أول شهر نيسان-أبريل من العام المذكور من مجلة:”Fortnightly Review “، نحن نعثر على ملامح روايته الأولى: “صورة الفنان في شبابه". فمتحدثا عن مفهوم الدراما عند ابسن، هو يشير إلى أنّ هذا الأخير يسيطر على موضوعه الدرامي في مجمله ب "نظرة ثاقبة، واثقة من نفسها، وبإتقان وتجرّد فكر إنسان ينظر الى عين الشمس من دون أن ينبهر". وفي محاضرة ألقاها في الخامس عشر من شهر ف فبراير -شباط عام 1902، يقول جويس :”للجميل، ولتألّق الحقيقي، حضور رشيق يبرز عندما يتأمّل الخيال حقيقة ذاته بحدّة ، أو حقيقة العالم المرئيّ، والفكر الذي يصدر من الحقيقيّ، ومن كلّ ما هو جميل، هو الفكر المقدّس للفرح والسّعادة. هذه حقائق، ووحدها هذه الحقائق تهب الحياة، وبها تحتفظ".
وكان جويس في العشرين من عمره لما تعرف على أحد جسور دبلن على فتاة حميراء تدعى نورا بارناكل. ومع هذه الفتاة التي ستكون رفيقته حتى اللحظة الأخيرة من حياته سيترك دبلن ليمضي إلى مدينة ترياست الايطالية قائلا لأفراد عائلته وهم يودعونه :"سأصنع أسطورتي بعيدا عنكم".