جاكلين سلام-كندا

عشنا وشهدنا مرحلة انتقال المرأة من موقع مديرة مطبخ إلى مديرة مطبعة. من خادمة إلى رئيسة قسم الأطباء في هذا البلد وذاك. لم يأت ذلك بهدوء وعلى طبق من فاكهة. كان ذلك عبر نضالها الفردي والجمعي للكتابة عن المطبخ والمطبعة والمصحة. لقد دفعت نساء كثيرات الصمن بكل اللغات. فهل نعثر على دواخل المرأة من خلال كتاباتها وتحليل مخيلتها سيكولوجيا؟!. ما الذي نجده حين نقرأ سيرة شخصية لامرأة، أو حين نقرأ رواية وكتابة متخيلة قصصية وشعرية؟
قد نجد هناك ما نحب وما نكره وما يثير. قد نعجب بما قالته الكاتبة ونحن عاجزون عن طرحه بحرية. ونجد ما نكرهه أحيانا لأن الكاتبة تقلق مستنقع أفكارنا ومعتقداتنا التي نريد أن تستمر كي لا نخسر الكثير أو القليل من جراء التغيير الذي تجلبه الكلمة إلى أرض الواقع ولو بعد حين. أعماق المرأة-الكاتبة الامريكية تظهر جليا في هذا الكتاب الذي صدر بالانكليزية عام 1981 بعنوان" من الذي في البيت، دراسة سيكلولوجية في كتابة المرأة خلال قرنين في امريكا منذ 1795 والى الآن. تذكرت هذا الكتاب لأنني عدت للجلوس في البيت منذ أسبوع بعد انتشار فايروس الكورونا في كندا والعالم. صار لدي بعض الوقت للتنقيب في كتبي التي جمعت كما من الغبار، فيما أنا اعمل يومياً لساعات طويلة في الترجمة.هذا الكتاب، بحوث جامعية ويدرس المراحل التاريخية الأفكار والمواضيع التي كانت تشغل المرأة في تلك الحقبة، بعد أن انتقلت من كونها مديرة المطبخ إلى محررة في الجريدة، أو نائبة رئيس، أو مديرة مطبعة.
...
أمهاتنا-الشرقيات- نساء قلما كن يكتبن في شأن ابداعي وعلمي. وأحياناً لا يقرأن أيضا لأنهن كن ضحايا الأحكام الذكورية والأمية التي حرمت نساء الشرق من التعليم مع استثناءات. جيلنا كان أكثر حظاً في مسألة "فك الحرف" ومعضلة التعبير عن الرأي من خلال النص الأدبي أو العلمي أو اتخاذ القرار فيما يخص حياتها الخصوصية:التعليم، الزواج، الطلاق، العمل، الكتابة. هنا نتكلم عن كتابات ما بعد الثورة الصناعية، وأوان حلول الكتابة الرقمية والتكنولوجيا المعاصرة المتوفرة للغالبية في العقد الأول من القرن21.

لماذا تكتبين يا مرأة؟
المرأة العصرية تكتب لأنها تريد أن تكتب وتستمع بالكتابة عن أفكارها ومخيلتها. ولكن الشهرة قد تكون سريعة وعاصفة ما أن تكتب في الجنس حتى وإن كان ينقصه الأدب والنضج، بعد أن كانت أغلب كتاباتها تأوهات عذرية وافتراضات طهرانية. المرأة تكتب لأنها تريد أن تقول شيئاً لم يقله غيرها، ولن أنسى صورة تلك الكندية العجوز التي تجاوزت سن التقاعد وماتزال تذهب إلى دراسة الكتابة الإبداعية في الجامعة كي تكتسب مهارة جديدة وهي تعد كتابها الثاني، بعد أن أنجزت مطبوعها الأول وهي في الستينات من العمر. فيما امرأة عجوز أخرى وضعت مخطوط كتابها وهي في السبعينات في عهدة ناشر مع اتفاق على عدم نشره وهي على قيد الحياة كونه يحمل محصلة تجارب حياتية لا تبعث على السرور للذين يعرفونها ولأفراد عائلتها بوجه خاص.

لا شك أن لكل صوت رغبة في الوصول ولفت الانتباه إلى الرسالة التي يحملها. وهناك لاشك فارق ما بين الوصول وهو الهدف، وما بين الشهرة و"البرباغندا" بمعنى الانتشار المرفق بضجيج مفتعل وخلبيّ يمارسه بعض أصحاب العقول الذكورية المتسلطين على نوافذ الثقافة العربية. وربما يكون السؤال مطروحاً بسبب ظهور المرأة الواضح على الساحة الثقافية العربية وما يصاحب هذا الظهور من تجديد ف يالطرح والرؤية، ومن إشكالات وضجيج واختلال في موازين التقييم والتلقي لدى القارئ والناقد. لربما ساهمت المرأة في تأجيجه وانتشت به بعض الأحيان. فالشهرة بطاقة عبور مضمونة لتمرير السيء والمتواضع، والتي تعاني منها كتابات الرجل كما نتاجات المرأة، والشواهد حاضرة اليوم وعلى مر العصور.
*
جميل أن نرى كم ازداد عدد الأصوات النسوية& الأنثوية. لقد ظهرت في كتابات المرأة بعض الطفرات الفحولية. بينما نجد كاتبة غربية قطعت شوطاً أكبر وفرغت من الكتابة عن جنسها وجسدها، فراحت تنبش في مناطق أخرى،وجودية وما بعد ميتافزيقية، وخيال علمي. انها تكتب بشعرية عن الدودة، الشجرة، القرد، الفأرة ووحيد القرن بقوة وإبداع كما في كتابات الكندية الباهرة مارغريت أتوود التي رشحت لجائزة نوبل مرات كثيرة وما زالت تحصد الجوائز الادبية على مستوى العالم.. قد يكون غياب النظريات الدراسات النقدية المجتهدة من المعوقات التي تحدّ من تطور كتابة المرأة والكتابة في العموم. الحرية والحد من الرقابة هي التي تتيح للمرأة أن تتحرر من قوالب أساليب الآخرين وآلية نقدهم، تتحرر من النسق المعدّ لها سلفاً كي تحرر نصا وفكراً مغايراً للنسق.
*
هل الكتابة سلطة؟
ليست غاية المرأة من الكتابة الحيازة على سلطة وسطوة. أي استبدال السلطة القديمة الذكورية بنموذج من آخر يحل في صورتها ومقامها ولغتها وأساليها. فاللغة بأفقها الرحب تتسع لكل الأشكال وصيغ التعبير. والكتابة بمحمولها الروحي والنفسي تعكس خصوصية تدلنا على بصمة المبدعة، كذلك البعد الجمالي الطازج والمغاير الذي يحمله النص هو الدلالة على اجتياز المرأة عتبة التبعية وصولاً إلى ضفة جديدة عذراء كانت مهمشة منذ قرون. وقد حققت الكاتبة شوطاً في هذا المجال وقد يكون مرتبطاً بأبعاد كثيرة منها: إلى أي مدى تحققت حرية المرأة العربية في البيت والقانون والشارع؟ وهنا سنجد الثغرات كثيرة ومتفاوتة من بلد إلى آخر ومن بيت إلى آخر، ومن كتاب إلى آخر. ويذهب بنا هذا السؤال إلى منطقة أخرى مهمة وهي "كيف نقرأ" فالقراءة فن ومشاركة في الإبداع، فعالية حثيثة ومتواصلة توليها الدول الغربية اهتماما. أذكر كتاباً صدر بالإنكليزية في الأربعينات بعنوان "كيف تقرأ كتاباً" يضع بين يدي القارئ(ة) درساً تعليمياً تثقيفياً للقراء من كل الطبقات -من المتواضعين أعلى طبقات القراء المجتهدين والنابغين. ترجم الكتاب إلى لغات عدة-ماعدا العربية.
أحياناً يقرأ الرجل كتابة المرأة كي يكتشف بعداً آخر لفكرها وطريقة تعبيرها عن قضاياها وعن وجهة نظرها حول التاريخ والمجتمع والدين والدولة. وحسب انفتاح وتزمت هذا القارئ وأبعاد روحه وفكره تبدأ معركة النقد البناء أو الهدام.
تمر على العالم اليوم ذكرى عيد الأم وذكرى "يوم الشعر العالمي" فيما المعمورة رازحة تحت سطوة هذا الوباء"فيروس كورونا" الذي يضعنا أمام أولويات مهمة وكل حسب موقعه.
الحفاظ على قيمة الإنسان(ذكرا وأنثى) تعني بالنسبة لي حرية التفكر والكتابة عن مسائل الحياة والموت، ومابعد الموت وقبله. الكلمات تنتشر بأسرع من الفايروس.للكلمات نوافذ وأبواب ومفاتيح تحاول كتابة تشخيص أمراض الحياة، أمراض الإنسان. وبانتظار الشفاء لكل قلب وعقل وجسد، سأكتب من بيتي الصغير في كندا سيرة المكان والآخر مرة في القصيدة ومرة في مقال ومرة في الترجمات.

جاكلين سلام: شاعرة وكاتبة وناقدة سورية كندية.
صدر لها خمس مجموعات شعرية. نشرت مقالاتها في المجلات والصحف في العالم العربي ومنها : الجزيرة نت- السفير، المستقبل، الحياة، الشرق الأوسط، الزمان..وليس حصراً.