قصد المكاري سوقَ البهائم، وجد الأسعار جنونيّة، أمّا سعر مبتغاه فمفترض أن يكون بخساً. عثر على واحد أذناه قولوا ناطحتا سحاب، حوافره صخور صوّانيّة، يزن الحافر منها لا أقلّ من "طنّ"، ذيله أوّله هنا وآخره في بلاد واق واق، وصوته، إذا زفر وشهق، قولوا أيضاً هدير بحر أجاج متلاطم الأمواج، غضباً من عاصفة هاربة من وجه العدالة تجتاح مجاله. اشتراه وامتطاه.
ومن عجائب الصدَف، أنّ زعيماً كان يُعدّ لإجتياح بلاد تشتهر بزراعة الموز، وقيل أنّ الزعيم ذاته لم يعترف أنّه يريد اجتياح البلاد الموزيّة طمعاً بثرواتها الموزيّة الهائلة، بل بلغه أنّ أهلها، صغيرهم مثل كبيرهم، جميعهم لا يؤمنون بالديمقراطيّة، وإذا الكلّ نعاج وواحد رغب أن يكون ذئباً فممنوع"!.
وعلم بما عند المكاري فقال: "ينفعنا في حربنا على القوم الظالمين"!، وقصد المكاري، وعرض عليه أن يؤجّره عبدَه، مقابل أجر شهري يبلغ إذا جرى احتسابه بالموز، مثالاً لا حصراً، خمسة آلاف موزة، والحرب لن تتجاوز أن تكون عمليّة صغيرة، قلْ عمليّه جراحية بسيطة، بالإضافة إلى تعويض آخر الخدمة، الذي إذا احتُسِب بالموز، أيضاً، فلن يكون أقلّ من مئة ألف موزة. وافق المكاري شرط أن يُشحن الموز إليه في اليوم الأوّل من كلّ شهر.
وشمّرت الحرب عن ساقيها، وصرخت، ونتّفت شعر رأسها. واستبسل أخونا العبد أيّما استبسال. لفتَ استبساله أنظار قادته، فتمّت ترقيته من "شيّال" إلى "عتّال"!، مهمّته كانت أن ينقل المؤن وبعض العتاد إلى الجبهات الأماميّة، مجتازاً جبالاً وعرة وأودية سحيقة وغابات بكر. وفي طريق العودة يحمل القتلى والجرحى والمحمومين. بعد فترة تمّت ترقيته إلى "حمّال"!. ومع كلّ ترقية كان يحوز، والحقّ يُقال، إمتيازات إضافيّة، ومثلاً كان يستحمّ، وهو يعبر، تحت وابل المطر، أو وهو يخوض نهراً، صار المسؤول عنه، وهو برتبة "سائس"، يحمّمه، يفرك جسمَه، يدلق عليه من ماء دافئ، وينشّفه، ويعطّره، وكان يغتذي على ما ينجم، ويشرب من حيث توفّرَ الماء، ولو من مستنقعات تعجّ بالعلَق، صار يأكل إلى مائدة، تزيّنها أطيب الخضراوات، فالخسّ خسّ، والجزر جزر، وأطيب الفواكه، فالتفّاح السكّري، وموز أبو نقطة، والعنب العدلوني، والتين البيضاني، ويشرب مياهاً معدنيّة، مثل "صحّة" و"نعص"، ولكن بدأ الحال ينقلب إلى ضدّه، فالموزيون استوعبوا الضربة الأولى، جمعوا شتاتهم، بدأوا المقاومة فرادى ثمّ زرافات وجماعات، وكلّما ارتفع منهم شهيد أخذ مكانه إثنان.
وتنادى قادة العدوّ إلى اجتماع طارئ، فالمقاومة التي يبديها الموزيّون لم تكن في الحسبان، وما كان نزهة أو عمليّة جراحيّة بسيطة صار ورطة وعمليّة خطيرة فيها حياة أو موت. الخطط انكشفت وفيها الكثير من العورات، وطبيعي أن تكون النظريّة غير التطبيق، وباطل الأباطيل أن تتغلّب همجيّة على مدنيّة، على ما قال زعيم الإجتياح. واستقدم إلى جبهات القتال أسلحة فتّاكة، تكتيكيّة واستراتيجيّة، وامّحت مناطق موزيّة عن الخارطة، وشوكةُ الموزيين قويّة. وبدأت معنويّات الغزاة تنهار، أخلاقهم تسوء على نحو متزايد. وعاين الحمّال ذلك، بأمّ عينيه وأبيهما رأى كيف أنّ فرقته اجتاحت قرية للموزيين وأضرمت النيران في بيوتها التي تشبه أعشاش عصافير الدوري، وكيف الرشّاشات تعقّبت الموزيين الفارّين. رأى طابوراً من الأسرى المكبّلين، وكيف أن جنوداً يحثّونهم بقضبان الحديد للإسراع في المشي لكي يبلغوا في الوقت المحدّد سوق النخاسة، ومن يتباطأ يُضرَب بحديدة ويُلقى للوحوش الكاسرة والطيور الجارحة والديدان الجائعة. ورأى موزيّاً وقد عرّوه حتى هو كما خلقتني يا ربّ، صلبوه ممدّداً عند شاطئ نهر ينحسِر، وبعد مدّ وجزر، وإذا الموزي، الذي قيل هو مثقّف، وقيل هو شاعر، وقيل هو لاهوتي متحرِّر، وقيل هو من أنصار البيئة، هيكل عظمي ناصع البياض. وسأل عن السرّ، قال له السائس: "إنّها أسماك بورانا". صمّم الموزيّون أكثر على مكافحة الوباء، وحلفوا بعظام أجداهم إلاّ يكون ذلك.
تمرّغت أخلاق الغزاة بالوحل أكثر وأكثر، كانوا إذا تقدّموا يقولون له: "إلى الأمام سرّ" والآن يقولون له: "حا"، وإذا أرادوا الإستراحة بعد مسيرة كانوا يقولون له: "قف" والآن يقولون له: "هش". ووداعاً للحمّامات وللمآدب، حتى أنّهم أعطوه أخيراً تنكة، لمّا سألهم قالوا له: "لتحفظ بها بَولَك، والمثل يقول: إحفظْ بولك الأصفر ليومك الأغبر"؟!. وتفّحصوا الأرض بأقدامهم ضحكاً، حتى لكأنّهم لن يضحكوا بعد أبداً. وكلّ شهداء الموزيين الذين ذُبِحوا وطُمِروا في مقابر جماعيّة بدا وكأنّهم قاموا من تحت التراب، وكلّ شهداء الموزيين الذين ذُبِحوا وأُلقي بهم في النهر بدا وكأنّهم خرجوا من الماء، وجميعاً أبادوا ألوية. ووصلت موسى حاصود الموت إلى الحمّال.
وماذا أقصُّ وأقول وعمر الكرام يطول، حتى مرّة وهم عند عنق جبل شاهق، يعبرون خلل حيّز ضيّق، وإذ الموت يكمن له تحت حجر، يدعس الحمّال، ينفتل الحجر، يتعثّر الحمّال، الوادي سحيق، إنّما بحركة ترسو الحمولة على الحيّز، وهو المربوط يتدلّى نحو الوادي، حيث الصخور البركانيّة المسنّنة، وأسرع السائس وعدد من الجند لنجدته، وحتى مرّة أيضاً، وأخونا عند مرجة انكشفت للموزيين، انهالت قذائف الهاون، فرّ هو ومن معه إلى الغابة القريبة، لكن أحداً منهم لم يصل، وهو انبطح وزحف. وكانت القذائف تنفجر حوله. لمّا عجز الموت دونه، حاول أن يقتله "نفسيّاً"، كاد يُوفّق، صار بطلنا لا تبرحه الكوابيس، حتى وهو في مرقده، طنّت ذبابة قريباً من أذنه، ظنّها صاروخاً عابراً للقارّات، انطلق من قارّة ليحطّ في قارّة، بعدما يعبر من إحدى أذنيه ويخرج من الثانية، وما علم إلاّ هو يصرخ هستيريّاً ويردّد الصدى مُرَّ صراخه.
طالت سنوات الحرب، والمطارِد غدا هو المطارَد، والقاتل صار هو المقتول، لم يبقَ موطئ قدم للغزاة سوى سطح مغارة يسمّونها سفارة، إليها استعجلت مروحيّة عسكريّة بارتباك، وانتشلت عدداً، واضطرّ واحد أن يتعنزق بحبل يتدلّى منها، لم يكن غيره، أخونا الحمّال ذاته. الذي رجع إلى ديرته، ناجياً بروحه، ولكن ليس بكلّ عقله.
وفي يوم، قرّر، وهو الذي يوماً لم يقرِّر، أن يفارق الحياة، أطبق فمه حتى لفظ آخر أنفاسه. سحبه سيّده بمساعدة ثور كبير إلى القمامة المشتعلة. وفي ليل ذلك اليوم ولولت الريح وذرفت السماء كلّ مآقيها. وإلى جوار نافذة كانت زوج المكاري إيّاه صاحب العبد النافق تبكي، ثم وهي تكاد تشرق بدموعها قالت لصديقة لها تحتضنها وتواسيها: "قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فتح فمه وأصدر صوتاً، هل كان يقول شيئاً؟ ما هو؟، أم كان يبكي؟، وهل أمثاله، يبكون مثلنا؟!.
[email protected]