عند اندلاع الحرب الكونية الأولى، كان ستيفان زفايغ في زيارة إلى بلجيكا التقى خلالها بصديقه الشاعر اميل فارهاران الذي كان يُكنّ له اعجابا كبيرا، ناقلا قصائده إلى لغة غوته. وبعد مرور ثلاثة أيام فقط على عودته من تلك الرحلة، كتب نصا بديعا بعنوان :" عالم من دون نوم". والنص يعكس الحالة النفسية المتعَكّرَة التي كان يعاني منها بسبب الحرب. فقد كان يمضي لياليه في فيينا ساهدا فلا يعرف راحة النوم إلاّ لوقت وجيز. وفي مطلع النص المذكور، كتب ستيفان زفايغ يقول:" النوم في العالم بات أقلّ من ذي قبل، والأيام والليالي أصبحت أكثر طولا. في كل بلد من هذه أوروبا التي تمتد إلى أقصى البصر، وفي كل مدينة، وفي كل شارع، وفي كل بيت، يبدو نَفَسُ النوم محموما وأشد قصرا، تماما مثل ليل شاسع من ليالي الصيف القائظة والخانقة، وفي الليالي، يلمع الزمن الملتهب، مُتَأججا، ومُغْرقا الحواسّ في الفوضى والالتباس. وكم هم كثيرون الذين كانوا من هذا الجانب، ومن ذاك، ينزلقون بهدوء من المساء إلى الصباح إلى مركب النوم الأسود وقد تزين بالأحلام الملونة التي تتأرجح في الريح، لكنهم سوف يسمعون مستقبلا الليل، والساعات الكبيرة تروح وتجيء من دون انقطاع في الطريق المرعب الذي يمضي من النور إلى النور، ويشعرون بهواجس وأفكار تُقَرّضُهم وتأكلهم من دون توقف إلى أن تمرض قلوبهم وتتفتّت. كل الانسانية ستكون مصابة بالحمى مستقبلا في النهار كما في الليل، وتعيش حالة من السهاد المخيف والقوي الذي يلقي بشرره عبر كل الحواس المُتَيَقّظَة لملايين من الناس. والمصير ينفذ لامرئيا من خلال آلاف من النوافذ والأبواب، مُفْزعا النوم، ومطردا نسيان كل فراش.

النوم في العالم بات أقلّ من ذي قبل، والأيام والليالي أصبحت أكثر طولا..."
ويواصل ستيفان زفايغ نصه قائلا :"لا أحد سيكون وحيدا مستقبلا، وحيدا مع نفسه ومع مصيره، وكل واحد سوف ينظر بعيدا. في الليل، وقت الاستراحة، وحيدا ومستيقظا، آمنا في بيته المحميّ، تطير أفكاره لتلتحق بأصدقائه، وبأناس لا تربطه بهم علاقات قوية(...)كل وحد ينظر، وكل واحد يظلّ عند نافذة حواسّه لكي يتلقى الرسالة، ويشرب الكلمات من شفاه الشجعان الذين يطمئنونه والخف في الشك من الذين ينهارون ويسقطون. الأنبياء، الحقيقيون والمزيفون، يمتلكون من جديد النفوذ لبسطه على الجموع...الجموع التي عليها أن تطيع، وأن تطيع أكثر مستقبلا وتتقدم في نار الحمى، وتتمدد في الحمى، في الأيام كما في الليالي، الأيام الطويلة، والليالي التي تبدو بلا نهاية لهذا الزمن الذي يستحقّ أن نعيشه ونحن مستيقظين (...) ثمة نظام جديد إذ أن حمى السهاد، والبلبلة، والأمل، والانتظار وكل هذا الذي يستنفذ هدوء أيامنا وليالينا لا يمكنه أن يتواصل. حتى الدمار المرعب الذي يبدو وكأنه يستولي على عالم مصاب بالذعر والهلع، ليس سوى شيء قليل أمام طاقة الحياة التي لا تزال قوية. هذه الطاقة التي في كل فترة من فترات التوتر والعنف، تبذل دائما كل ما في وسعها لكي تستريح بهدف أن تصبح أكثر قوة وأكثر بهاء"...